الفشل
ركبا وسارا بين الأشجار والشمس فوق الرؤوس فلم يغنهم ظل الأغصان إلاَّ قليلًا حتى انتهيا إلى باب الدير وحماد قد نفد صبره. وكان سلمان عارفًا الجرس المعلق هناك فجذب الحبل فدق الجرس ودق قلب حماد معهُ فوقفا برهة لم يفتح لهما أحد فأعاد الدق وبعد قليل أطل من فوق الباب راهب وقال مستفهمًا: «من أنتم؟»
قال سلمان: «زوار للدير».
قال: «من أين أنتم قادمون؟»
قال: «من جهات الشام».
فقال الراهب بلهجة النفور: «لا محل للزيارة عندنا» وتحول إلى داخل الدير فناداه سلمان فلم يجب فكلمهُ بلسان أهل الحيرة فعاد الراهب وقد تذكر أنهُ يعرف ذلك الصوت فأطل ثانية من أعلى الباب وقال: «من أنتم؟»
قال سلمان: «لسنا من أهل الشام وإنما نحن عراقيون مثلكم افتحوا لنا» فتفرس الراهب في وجه سلمان برهة ثم جذب سلسلة مشدودة بالنافذة ففتح الباب فدخل حماد وسلمان وفرساهما وراءهما فأخذ الراهب يرحب بهما وينظر إلى سلمان لعلهُ يعرفهُ.
فقال لهُ سلمان: «أتعرف هذا الشاب يا حضرة الأب». وأشار إلى حماد.
فالتفت إليه وقال: «أَليس هو الأمير حماد بن الأمير عبد الله».
قال: «بلى هو فهل رأيت والده في هذه الأثناء».
قال: «رأيته مرارًا وهو الآن مع جند المسلمين في خير ولولاه لأصابنا ضنك وربما قتلنا فقد كان لنا عونًا ومجنَّا بورك فيه ومربحًا بابنهِ».
وما زالوا سائرين حتى أتوا دار الضيافة وحماد ينظر يمنة ويسرة وقد شاعت عيناه لعلهُ يرى شيئًا يتنسم منهُ رائحة هند فلم ير إلاَّ رهبانًا وفعلة فدخلوا دار الضيافة وتناول الفرسين بعض الخدم فساقوهما إلى الإسطبل وبعثوا من يدعو الخادم ليأتي بالأحمال.
أما حماد فتعاظم قلقهُ ولم يعد يستطيع صبرًا فأدرك سلمان فيهِ ذلك فابتدر الراهب بالاستفهام عما منعه من فتح الباب لهما حالًا وما الذي يخافونهُ من أهل الشام.
فقال: «نلتمس من الأمير حماد عذرًا على توقفنا عن استقبالهِ برهة وما ذلك إلاَّ لأننا وقعنا منذ أيام في ورطة بسبب ضياف نزلوا عندنا وكانوا قادمين من الشام».
فقال سلمان: «ومن هم أولئك الاضياف؟»
قال: «جاءنا جماعة نزلوا في هذا الدير شهرًا ونحن نحسبهم من أعيان الشام فما لبثنا أن عرفنا أنهم جبلة بن الايهم وامرأتهُ وأبنتهُ وبعض خدمهُ».
فلما ذكر جبلة وأهلهُ خفق قلب حماد وخاف أن يسمع خبرًا يسؤه وقد عودتهُ حوادث الأيام أن يسيءَ الفأل في كل مستقبل فأصاخ بسمعهِ ليرى ما تم لهم واكتفي باصغائهِ حال الراهب على إتمام حديثهِ. وكان بعض الرهبان قد جاءوا بالمواعين فيها الماء ليغتسل الضيفان فلم يلتفت أحد منهما إليها وظلا مصغيين.
قال الراهب: «فأقام الملك جبلة بيننا أيامًا على الرحب والسعة ونحن لا نحسبهُ إلاَّ من بعض أمراء الشام. على أننا كنا نعجب لاحتجابهِ في الدير واحتباسهِ عن العيون ونحن نتوسم من خيولهِ وخدامهِ أنهُ محب للصيد والفروسية. ولكن الأمر انكشف لنا بغتة فجاءنا جماعة من جند المسلمين في عصاري بعض الأيام وفيهم الفرسان والمشاة وقرعوا الباب ففتحنا لهم ونحن غير خائفين لما نعلمهُ من العهود التي خصصوا الديور والكنائس بها. فخرج الرئيس المحترم لاستقبالهم فقالوا لا خوف عليكم ولكن عندكم عدوًا فر منا في حرب الشام وكان قد أسلم ثم ارتد فلا بد من القبض عليهِ وسوقهِ إلى الأمير سعد بن مالك».
فسأَلهُ الرئيس عن ذلك العدو فقال: «أنهُ جبلة بن الايهم ملك غسان وكان جبلة قد رأى الرجال وعلم أنهم قادمون للقبض عليهِ فتربص ولو كان وحده لتمكن من الفرار ولكنهُ لم يجد إليه سبيلًا. فقبضوا عليهِ وساقوه حالًا ولم يمهلوه ريثما يلتفت وراءه».
فقطع سلمان الحديث قائلًا: «هل ساقوه وحده».
قال: «ساقوه معهُ امرأتهُ والخدم».
قال حماد: «وماذا جرى لابنتهِ؟» قال ذلك وهو مضطرب الحواس.
قال الراهب: «أما ابنتهُ هند فكانت قد خرجت في صباح ذلك اليوم لزيارة دير هند الصغرى في الحيرة على أن تقضي نهارها هناك وتعود في المساء. فلما أُخذ والداها لم تكن هي هنا فلما جاءت في المساء أخبرناها بما كان فأجفلت ولطمت خديها وندبت والدها ثم وقفت تبكي تارة وتفكر أخرى حتى قاربت الشمس الزوال ونحن نخفف عنها فسأَلتنا عما قالهُ لنا والدها قبل ذهابهِ فاعتذرنا بأنهُ لم يستطع كلامًا لفرط ما ألحوا عليهِ بالذهاب. فأسرعت إلى جواد لها كان باقيًا هنا فركبت وتزملت بعباءة من الحرير المزركش كأنها فارس مغوار واستفهمت عن الجهة التي ساروا فيها بوالدها فأشرنا إليها فهمزت الفرس وخرجت تنهب الأرض نهبًا ونحن لا نعهد مثل ذلك في البنات. ثم لم نعد نعلم عنها خبرًا».
فما أتى الراهب على تمام الحديث حتى انقبضت نفس حماد واتقدت الغيرة في قلبهِ وتولاه اليأس فلبث صامتًا كأنهُ أصيب بصدمة ثم التفت إلى سلمان فإذا هو صامت يفكر.
فاستغرب الراهب ما ألم بهما من البغتة وعهده باللخميين يسرون بما يسوء الغساسنة لما بينهما من الضغائن القديمة فقال لهما: «ما بالي أرى حديث جبلة قد همكما إلى هذا الحد وهو غساني ألعلكما من غسان».
فقال سلمان: «لم يهمنا حديثهُ ولا يهمنا أمر الغساسنة كلهم ولكننا نفكر في تلك الفتاة المسكينة. فهل مضى على ذهابهم مدة طويلة».
قال: «لا تزيد على بضعة عشر يومًا».
قال: «وهل سمعتم عنهم شيئًا بعد ذلك».
قال: «سمعنا أخبار متضاربة فمن قائل أن سعدًا أمير جند المسلمين قتلهم حالًا وقائل أنهم قتلوا قبل وصولهم إليه وقائل أنهم لا يزالون أحياء».
فازداد اضطراب قلب حماد وهم بالنهوض فأقعده سلمان وقال للراهب متجاهلًا: «وماذا سمعتم عن ابنتهِ المسكينة».
قال: «لم أسمع شيئًا عنها منذ خروجها ولعلها اقتصت آثارهم إلى معسكر المسلمين».
فلم يعد حماد يستطيع صبرًا فنهض إلى جواده وتبعهُ سلمان. وكان خادم حماد قد وصل الدير بما معهُ من الأمتعة وجعلها في مأمن. فانفردا في مكان.
فلما خلوا قال حماد: «دعني يا سلمان أقتفي أثر جبلة فقد ضاق صدري وتحدثني نفسي بسوء أصابهم جميعًا. أهذه نهاية آمالي ونتيجة أتعابي». قال ذلك وحرق أسنانهُ وتلألأت الدموع في عينيهِ ولكنهُ تجلد تجلُّد الرجال وقال: «علينا السعي يا سلمان وعلى الله التدبير. فما الرأي».
قال: «الرأي أن نقصد معسكر المسلمين وندخل على سعد بن مالك أميرهم فنسألهُ عن مولاي الأمير عبد الله وهو عنده من كبار المشيرين كما تعلم فإذا لقيناه أعاننا في البحث عن جبلة وأهلهِ وإذا كان جبلة لا يزال حيا وسطنا الأمير عبد الله بالعفو عنهُ».
فقال: «نعم الرأي رأيك ولكن هندًا أين هي».
قال: «نظنها معهم وهب أن والدها قتل فهي لا تقتل لأن المسلمين لا يؤذون النساء فقد تكون عندهم في حفظ وخصوصًا إذا كان سيدي الأمير عبد الله قد رآها أو عرف مقرها».
فقال حماد: «إلاَّ تظنهم يتخذونها سبية.. أعوذ بالله» قال ذلك وهم بالجواد يركبهُ. فقال سلمان: «تمهل يا مولاي ريثما نلاقي رئيس الدير ونسألهُ عن معسكر المسلمين لئلاَّ نبذل السعي والوقت عبثًا». قال: «حسنًا» وتجلدا ودخلا على الرئيس وكان قد عرف قدومهما فرحب بهما وقبل حماد وأمر لهما بمائدة فقالا لا نستطيع طعامًا لأننا خارجان على عجل لأمر هام لنا وقد جئنا لوداعك. قال: «أتودعانني قبل أن نلتقي».
قال: «كذلك قضي علينا وأنتم تعلمون أن سيدي الأمير عبد الله في معسكر المسلمين وفي نيتنا أن نذهب إليه فأين هو معسكرهم».
قال: «إن المسلمين معسكرون الآن تجاه المداين في بهر شير وأظنكم تعرفونها وهي بالحقيقة قسم من المداين فأنها في الغرب والمدائن في الشرق وبينهما دجلة. فقد نزل المسلمون على بهِر شير وحاصروها شهرين ورموها بالنبال والمجانيق حتى فتحت. فاحتلوها وهم عاملون على فتح المدائن».
فقال سلمان: «إني أعرف بهر شير جيدًا ويسهل علينا الوصول إليها إذ لا يحول بيننا وبينها إلاَّ الفرات وبعض السهل».