فتح المدائن
فودعا الرئيس ونزلا إلى الغرفة التي أودعا الأمتعة فيها فلبس حماد درعهُ ورداء والده الملك النعمان وجعل خاتمهُ بين أثوابهُ وسلمان ينظر إليه فسألهُ عن سبب لبسهِ ذلك الرداء فتنهد وقال: «أَلسنا ذاهبين إلى المدينة التي قتل فيها والدي النعمان؟»
قال: «بلى».
قال: «ألسنا في شك من بقاء هند حية؟»
قال: «الله أعلم».
قال حماد: «ونحن نعلم أيضًا أنها قد تكون حية أو ميتة إذ لا يعرف أحد مكانها وقد سيق والدها إلى القتل لا محالة فإذا كانت لحقت بهِ فلا يخلوا أمرها من أحد خطرين أما إن تكون سبية أو قتيلة وكلاهما موت. فهل أطمع بعد ذلك في الحياة وقد آن الوقت الذي يجب علي أن أنتقم فيهِ لوالدي وهذه جنود المسلمين على أبواب المدائن فاني محارب معهم حتى أدخل الإيوان بنفسي فأقتل كسرى بيدي فإذا قتلت فما أنا خير من هند ولا عيش لي بعدها. وإذا حييت فذلك أمر الله يقدره لحكمة لا نعلمها». قال ذلك وقد علاه الغضب وتجلت في وجههِ مهابة الملوك فأقطب أسرَّتهُ ومازال يلبس درعهُ وصليل حديده مسموع إلى الخارج. فتهيب سلمان من منظره ولبث صامتًا لا يدري ما يقول ثم قال: «ألا ترى يا مولاي أن نتنكر بزي المسلمين لئلا يستغشوننا في وسط المعركة فيحسبونا من الفرس أو من عرب الحيرة أحلافهم؟»
قال: «لقد رأيت حسنًا». وكان بين ثياب سلمان كثير من تلك الأثواب لما كان يحتاج إليه من التنكر فاستخرج ثوبين لبس كل منهما ثوبًا وتعمما بعمامة أهل الحجاز حتى لا يشك الناظر اليهما في أنهما حجازيان.
وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل وهم أهل الدير بتهيئة طعام المساء فشاهدا جماعات منهم عائدين بأحمال الأثمار والأخشاب من بساتين الدير.
ثم ركبا وأطلقا الأعنة للجوادين فقضيا مدة صامتين وأفكارهما سابحة في ما سمعاه يستوقف مجاريها أصوات حوافر الخيل وأنغام وقعها بين قرقعة على الحجارة وهمس على الرمال وهما لا يتكلمان. فأمسى عليهِما المساء وراء الحيرة فباتا في كنيسة هناك وأصبحا راكبين فمرا بجيف بعضها وهم خيول وجمال والبعض الآخر جثت آدميين مبعثرة في تلك السهول لم يبق منها غير العظام الضخمة التي لم تقدر على قضمها النسور فتذكرا ما وقع هناك من الحروب الهائلة بين المسلمين والفرس. ثم قطعا الفرات على جسر من السفن وفي اليوم التالي أشرفا على المدائن وقصورها عن بعد فرأيا فوقها ضبابًا كثيفًا يكاد يحجبها عن الأبصار فقال سلمان: «لقد همني أمر هذا الضباب فاني أظنهُ غبار الحرب ويخال لي أن المسلمين يهاجمون المدينة في هذا الصباح». ثم وخزا الجوادين حتى وصلا بهر شير فإذا هي في هرج والناس فيها بين فارس وماش يهرعون نحو النهر فسألا عن سعد بن مالك فقيل لهما أنهُ يخوض النهر بجيشهِ لفتح المداين والمسلمون يقتفون أثره ففتشا عن الأمير عبد الله فلم ينبئهما بخبره أحد فصعدا إلى أكمة أشرفا منها على المدائن ودجلة فرأيا المسلمين يقطعون النهر بأفراسهم والرماح مشرعة في أيديهم وبعضهم قد بلغو الضفة الأخرى يحملون الأعلام. ونظرا إلى المداين فإذا ببعض حاميتها قد خرجوا من الأسوار بأفيالهم وأفراسهم وأعلامهم يتأهبون للقاء المسلمين وقد علا الضجيج حتى أستكت المسامع وتصاعد الغبار حتى حجب السماء. فهاجت عواطف حماد وجرى دم الملوك في عروقهِ وثارت الحمية في رأسهِ فنظر سلمان إليه فرآه قد احمرت عيناه وهو يتفرس في ساحة القتال كأنهُ يهم بالوثوب إليها فقال لهُ: «ما بال سيدي في شاغل».
فنظر حماد إليه وقال: «أراني يا سلمان راغبًا في نزول هذه الساحة فقد آنت ساعة الانتقام لوالدي. هؤلاء هم قتلة النعمان بن المنذر قد نزلوا لقتال المسلمين فلا أراني صابرًا عن منازلتهم ووصية والدي خارجة من ظلمات القبر. ولا ريب عندي يا سلمان أن تقاعدي عن القيام بتلك الوصية من أوَّل الأمر هو الذي عرقل مساعي وحرمني من هند لأن طاعة الوالدين واجبة وقد تهاملنا في هذا الواجب فجوزينا بالتعب والشقاء والفشل والقنوط. ألم تكن هند طوع إرادتنا ألم يكن والدها راضيًا بي ينتظر ساعة القران. فما بالهُ أحجم وتغير من يوم قرأنا تلك الوصية المقدسة وعولنا على إغفالها. ذلك أول قصاص نلناه وما زالت تتوالى علينا الإحن وتقف في سبيلنا العقبات من ذلك الحين حتى خرج النصيب من أيدينا أو كاد وكأن الله سبحانهُ وتعالى قد جرنا إلى هذه الساحة ليذكرنا بما ارتكباه لعلنا نرعوي ونصدع بالأمر وكأني بوالدي يناديني بأعلى صوتهِ من أعماق قبره وأظنهُ ما انفك يفعل ذلك منذ أعوام ولكننا كنا بعيدين عن مدفنه فلم نسمع النداء. وتحدثني نفسي يا سلمان أن أنازل هؤلاء الفرس في جملة المنازلين وعلي برد النعمان بن المنذر وبيدى خاتمهُ فإما أن أقتل شهيد الثأر المقدس وإما أن أحيا بعد النصر وأظفر بخطيبتي فيطيب لي القران عملًا بوصية والدي فقد أوصاني أن لا أقضي أمرًا مثل هذا إلاَّ بعد الانتقام لهِ».
وما أتى حماد على آخر كلامهُ حتى ارتعشت أناملهُ وثارت عواطفهُ ولم يتمالك عن أن همز جواده نحو النهر فخاض الماء وخاضهُ وسلمان في أثره حتى أتيا الضفة الأخرى فرأيا المسلمين يطاردون الفرس حتى دخلوا المداين فدخلوها في أثرهم. وأوغل المسلمون في المداين وحماد في جملتهم حتى أتوا إيوان كسرى فدخلوا حديقته وخيولهم تدوس الأزهار والرياحين ورماحهم تخترق أغصان الليمون والازدرخت حتى وصلوا باب الإيوان فكان حماد أول داخل وقد عوّل أن يقتل كسرى بيده. والإيوان قاعة كبيرة طولها مئة ذراع وعرضها خمسون مبنية بالآجر والجبص سقفها عقد واحد قائم على عمد من الرخام المنقوش وفي صدر الإيوان عرش يجلس عليهِ كسرى تعلوه قبة مرصعة في داخلها مروحة من ريش النعام والى جانبي العرش مجالس الأعوان والوزراء من المرازبة والكهنة وجدران الإيوان وسقفه مزينة بالرسوم وفي جملة ذلك رسم كسرى انوشروان وغيره من الأكاسرة العظام وأبيات من الشعر الفارسى مكتوبة بالحرف الكداني وفي سقف الإيوان رسوم الأفلاك والأجرام.
فلما رأى حماد نفسهُ في وسط الإيوان ووقع نظره على ذلك العرش أسرع نحوه وهو يحسب كسرى جالسًا عليهِ فإذا هو خال وليس في المكان أحد من الفرس لفرارهم جميعًا إلى حلوان ولم تمض لحظات حتى امتلأ الإيوان بالمسلمين وقد أخذوا في تكسير التماثيل وتمزيق الصور وكان الفرس قبل خروجهم قد حملوا معهم ما خف حملهُ وغلا ثمنهُ وبقي مع ذلك ما لا تقدر قيمتهُ من الذهب والحجارة الكريمة والثياب المزركشة والأسلحة المذهبة والتيجان المرصعة.
أما حماد فحالما تحقق سقوط المداين لم يعد يشغلهُ شاغل عن التماس الأمير عبد الله فلم يره بين الهاجمين فانشغل بالهُ عليهِ فأوعز إلى سلمان أن يساعده في طلبهِ وكان سلمان أكثر قلقًا عليهِ من حماد. فقال لحماد: «لا تبعد أنت عن هذا الإيوان فإني ذاهب إلى سعد بن مالك أمير هذا الجند لعلي أسمع منهُ خبرًا عن سيدي الأمير».
قال: «حسنًا» وبقى حماد في جملة الجند لا يستغشهُ أحد حتى سكنت الغوغاء وهو ينظر إلى ما يحملهُ الفاتحون من التحف الغريبة وفيها التيجان والسيوف المرصعة فسمع قائلًا يقول: «هذا هو سيف النعمان» فلما سمع ذلك خفق قلبهِ وود لو ينالهُ هو ولكنهُ لم يجسر على التماسهُ فقال في باطن سره هذا هو سيف النعمان وهذا ابن النعمان وهذا برد النعمان وهذا خاتمه وقد شهدوا حرب الفرس معًا ورأوا سقوط دولتهم رأى العين وذلك ما تمناه والدي ولم يبق لي في الحياة مأرب إلاَّ إذا ظفرت بمنيتي ومنتهى أربي. ولم يكد يتذكر هندًا حتى عادت إليه أشجانهِ ونسي موقفهُ واليأس في شاغل عنهُ فهمز جواده وأخذ في البحث عن عبد الله فتذكر موعده مع سلمان فوقف حتى عاد سلمان فإذا هو منقبض الوجه فقال لهُ حماد: «ما وراءك» قال: «لقيت بعض حاشية سعد بن مالك وسألتهم عن الأمير عبد الله فقالوا أنهُ كان معهم ولكنهُ خرج من المعسكر أول البارحة ولم يعد».
فقال: «هل سألتهم عن جبلة؟»
قال: «سألتهم فقالوا إن سعد أمر بقتلهُ منذ قبض عليهِ».
فقال: «هل علمت إذا كانت هند معهُ عند قتلهُ وماذا جرى لها؟»
قال: «علمت أنها لم تكن معهُ ويظهر أنها لم تصل إليه فقد قال لي مخبر أن جبلة سيق أسيرًا ومعهُ امرأتهُ فقط وعلى كل حال لا نظننا نتبين الحقيقة إلاَّ من سيدي الأمير عبد الله».
وتركا المدينة والمسلمون يحسبونهما من جملة جندهم لما تنكرا بهِ من الزي الحجازي حتى إذا صارا خارج المدائن قال حماد: «لقد قضي الأمر يا سلمان وسقطت عاصمة الفرس وإن يكن ملكها يزدجرد فر ولم يقتل بعد ولكنهُ مقتول لا محالة فها قد أنفذنا وصية والدي ولكننا ما لبثنا أن سمعنا بمقتل جبلة ونحن في ريب من أمر أهلهِ ولا نعلم مقر هند». قال ذلك وحرق أسنانهُ وأطرق.
فقال سلمان: «لا أظن هندًا إلاَّ في بعض الديور وعلى كل حال إننا لا نستطيع أمرًا قبل مواجهة الأمير عبد الله».
قال حماد: «وما العمل؟»
قال: «أرى أن نفتش عنه».
قال: «أخاف أن يكون قد أصاب حتفه أيضًا».
قال: «لا أظن ذلك لأنهُ لم يكن في المعركة وقد علمنا أنهُ كان في المعسكر قبل الهجوم فلعلهُ التجأ إلى مزرعة من مزارعهِ خوفًا من الحرب».
قال: «أتعرف لهُ مزرعة قريبة من هذا المكان؟»
قال: «أعرف مزرعة لهُ على بضعة أميال منا فلنذهب إليها لعلنا نقف على خبره من بعض الفلاحين هناك».
قال حماد: «سر أنت في هذه المهمة ودعني أعود إلى الحيرة أجدد البحث عن هند لعل أحدًا من أهل الدير ينبئني بخبرها ولنضرب موعدًا نلتقي فيهِ بمكان نعينهُ».
قال: «لقد رأيت رأيًا حسنًا وأرى أن نلتقي في دير هند الصغرى في الحيرة بعد ثلاثة أيام فمن استطلع خبرًا قصهُ على الآخر». وافترقا.