أين هند
فأطلق حماد لجواده العنان وعاد فخاض دجلة وأغرب يلتمس الفرات فقطعهُ وسار قاصدًا دير هند الكبرى وبات في الطريق ليلة ونزل على الدير في أصيل اليوم التالي فقرع الجرس ففتحوا لهُ وهم يحسبونهُ مسلمًا لتنكره بلباس الحجازيين فرحبوا بهِ ولبثوا ينتظرون ما يبغيه فلم يكلمهم وظل قاصدًا الرئيس وقد عرف غرفته فاستقبلهُ أحسن استقبال وبالغ في إكرامهِ فلم يصبر على تنكره فأطلعهُ على حقيقته فسألهُ عما لقيه فقص عليهِ خبر المداين وفتحها فذكر الله وقال: «لقد توسمنا قرب سقوط الفرس منذ أشهر لأنهُ سبحانهُ وتعالى لا يبقي على عبده النار فان هؤلاء الفاتحين وإن لم يكونوا نصارى فهم يعبدون الله ويوحدونهُ ويؤمنون بالأنبياء والرسل ويذكرون عيسى ومريم بالخير ففي انتصارهم نصرة للدين القويم».
ولم يكن هذا الحديث ليهم حمادًا ولكنهُ صبر حتى فرغ الرئيس من كلامهِ فقال لهُ: «هل سمعتم شيئًا عن جبلة بعد ذهابي؟»
قال: «لم نسمع عنه شيئًا ولكننا سمعنا خبرًا عن ابنتهِ».
قال: «وماذا سمعتم عنها».
قال: «إن بعض رهباننا ينزلون الحيرة مرتين في الأسبوع يحضرون سوقها يستبدلون ما يفضل عندنا من غلاَّت أرضنا بما نحتاج إليه من الأنسجة أو الآنية أو نحوها فاتفق للذين نزلوا على أثر خروج جبلة وأهلهِ أنهم رأوا تلك الفتاة في بعض طرق الحيرة على أنهم اختلفوا في حقيقتها فأنكرها بعضهم وأصر الآخرون على أنها هي هي بعينها فلا ندري أيهما مصيبًا».
فلما سمع حماد ذلك قال: «إلاَّ يتنازل حضرة المحترم لاستقدام أولئك الرهبان لعلي أتحقق الأمر بنفسي».
قال: «حبا وكرامة». وصفق فجاء راهب فأمره أن يدعو راهبين سماهما وبعد هنيهة جاء الراهبان فسألهما حماد عن تلك الفتاة فقال أحدهما: «رأيناها قبل أن ندخل الحيرة بقرب بحيرة هناك ويخال لي أنها ابنة جبلة ولكن أخي هذا ينكر عليّ ذلك».
فقال الآخر: «لا أظنها هي لأني لم أتوسم فيها ما عهدناه من الأنفة والعزة فقد عرفناها هنا وفي وجهها مهابة الملوك وفارقتنا على جواد كأنها من أمهر الفرسان والفتاة التي شاهدناها لا أقول أنها لا تشبهها ولكنها أشبه بعامة الناس منها بالملوك أو الأمراء».
فلما سمع حماد كلامهما تحير في أمره ومال بكليتهِ للمسير إلى الحيرة يتفقد هندًا بنفسهِ فتظاهر بالاكتفاء بما سمعهُ وهم بالنهوض فدعاه رئيس الدير للمبيت عندهم تلك الليلة فاعتذر بما يدعوه إلى سرعة المسير وودعهُ وخرج والشمس قد مالت نحو المغيب وجعل الحيرة وجهتهُ ولم يكد يتوارى عن الدير حتى أشرف على الحيرة ورأى غديرها المتصل بالبحيرة وقد غابت الشمس وأخذت الكواكب في الظهور فأظلمت الدنيا في عينيه فالتفت فإذا هو على ميل وبعض الميل من المدينة ثم اشتد الظلام ولم يعد يرى الطريق فتبين لهُ عن بعد نور مزدوج عرف من خفقانهِ أنهُ وقود عند الشاطئ انعكس نوره في الماء فظهر مزدوجًا فقصده وقبل أن يصلهُ سمع صوتًا يناديه بلغة العراق: «من أنت».
فقال: «غريب لا أعرف الطريق ومن أنت».
فقال: «يا هلا بالضيف أهلًا بالفارس».
ثم رأى حماد الرجل قادمًا وبيده خشبة مشتعلة يستضيء بها فتفرس فيهِ فإذا هو شيخ طاعن في السن قد استرسلت لحيته وشاب شعره ولكنهُ لا يزال في نشاط الشباب عليهِ عباءة خلقة وبيده عصا كبيرة فعرف حماد من مجمل منظره أنهُ راع على أنهُ ما لبث أن شم رائحة الزريبة وسمع معاء الماعز فتحقق ظنهُ ولكنهُ لم ير حولهُ بناء ولا خيمة فترجل وسلم والراعى يتفرس فيهِ وينظر تارة إلى وجههِ وطورا إلى لباسهِ.
ثم قال لهُ: «ما بالي أرى لباسك حجازيًا وكلامك عراقيًا».
قال: «إني من كليهما». وقطع الكلام. فسكت الراعي وتقدم إلى الفرس فقاده بعناية وليس في ذلك المكان غيرهما فمشيا لا يسمعان صوتا غير معاء المعاز ونقيق الضفادع حتى انتهيا إلى كوخ صغير مبني من سعف النخل وقد ربض عند بابهِ كلب كبير الجثة ظل رابضًا هادئًا كأنهُ أدرك أن النازل ضيف لا خوف منهُ على القطيع.