أين الشجي من الخلي
أما حماد قلما وصل الكوخ واشتم رائحة الرعاة استنكف من الدخول إليه فقال للشيخ: «دعنا نجلس ههنا فإن ذلك أفرج لنا».
قال: «مرحبًا بك حيثما جلست». وأتاه بفرو من جلد الماعز جلس عليهِ وذهب الشيخ بالفرس إلى عمود وراء الكوخ شده إليه وأخذ في نزع السرج. وفيما هو يفعل ذلك سمعهُ حماد يتمتم ويقول أقوالًا لم يفهمها.
فناداه فلم يجبهُ فأعاد النداء فجاءَ الشيخ واللجام بيده فنظر حماد إليهِ فإذا هو يتبسم فبانت لثتهُ ولم يبق فيها إلاَّ سن بارزة إلى الأعلى.
فقال لهُ حماد: «وما يضحكك يا أخا لخم».
قال: «إنما أضحكني ما رأيتهُ في عدة هذا الجواد مما يشبهُ عدة فرس تعودت أن أراه كل ليلة من ليالي الأسبوع الماضي يركبهُ فارس قد أعجبني فيهِ ما أعجبني فيك».
قال: «من هو ذلك الفارس وما الذي أعجبك فينا؟»
قال: «لقد أعجبني فيكما التنكر فإن ذاك كان يأتيني في كل صباح ملثمًا وعليهِ عباءة من الحرير فيكلمني بصوت النساء وعليهِ رداء الرجال. وأنت جئتني بلباس الحجاز وكلام العراق فلا أدري هل تغيرت الأرض واختلط الناس أم كيف».
فتذكر حماد هندًا وما سمعهُ من تزملها بالعباءة يوم خروجها من الدير فاستأنس بحديث الرجل فهم باستيضاحهِ فإذا هو قد تركهُ وتحول نحو الزريبة فاستقدمهُ فأجاب أنهُ آت على عجل فلبث حماد كأنهُ على مقالي الجمر حتى عاد الراعي وفي يده قصعة من الخشب قد أكمد لونها من توالي السنين على استخدامها بلا غسل وفيها لبن حلبهُ من ماعزه وقدمها لهُ ليشرب.
فاعتذر حماد بأنهُ لا يحتاج إلى طعام.
فقال الشيخ: «لقد نزلت ضيفًا فما عليك إلاَّ أن تتناول الطعام وإذا كنت ملآن الجوف تمهل ريثما أتيك ببعض الخمر» قال ذلك وتحول نحو الكوخ وعاد بقصعة فيها خمر فقدمها لحماد وهو يقول إليك هذه الخمر فأنها من غلة كرمنا هذا العام. فتناول حماد القصعة لا رغبة في الشرب ولكنهُ خاف إذا اعتذر أن يأتيه الشيخ بشيء آخر.
ثم جلس الراعي بجانب كلبهِ ويده على رأس الكلب يلاعب ناصيتهُ بين أصابعهِ وهو ينظر إلى حماد.
فابتدره حماد قائلًا: «ذكرت لي الفارس المتنكر ولم تتم حديثك».
قال: «هذا هو كل حديثي عنه فإنهُ أتاني منذ بضعة عشر يومًا فأوقف جواده عند هذا الكوخ وسألني الذهاب إلى دير هند لاستفهم لهُ على أناس قادمين من الشام هل نزلوا الدير أم لا. وكنت إذا نظرت إليه رأيتهُ فارسًا ملثمًا فإذا تكلم خلتهُ امرأة فسألتهُ أن يحسر اللثام عن وجههِ فأبى ودفع إلي دينارًا فأطعت أمره ووعدتهُ بالجواب في المساء فعاد في المساء وهو يظنني ذهبت لإنفاذ مهمته ولم يدر إني لا أستطيع التخلي عن ماشيتي وليس عندي من أعهد أمرها إليه. فلما سألني أجبته إني سألت أهل الدير فقالوا أنهُ لم يأتهم أحد. وما زال يكرر زياراتهِ ودفع الدنانير وأنا أجيبهُ جوابًا متشابهًا حتى إذا كان منذ بضعة أيام استحلفني بدر الماشية والسيدة مريم أن آتيه بالخبر اليقين. فسرت إلى الدير فسألتهم فقالوا أنهم لم يأتهم أحد وهب أن أحدًا من أهل الشام جاءهم فلا يقبلون زيارتهُ. فلما أجبت الفارس هذا الجواب غضب وتمتم وكأني سمعتهُ يلطم ثم تحوَّل عني ولم أعد أراه من ذلك اليوم فندمت لإخلاص الخدمة وإنفاذ المهمة بالصداقة. فلما رأيتك وآنست ما آنستهُ من المشابهِة بينكما ضحكت وعوَّلت على أن لا أصدق في خدمتك».
فلما سمع حماد ذلك تحقق أن السائل هند بعينها فقال للشيخ: «ألم تعلم الجهة التي سار فيها ذلك الفارس».
قال: «لا. وهب إني أعلم فما أنا صادقك».
فمدّ حماد يده واستخرج دينارين دفعهما إليه فتناول الشيخ النقدين وهو يتفرس فيهما ويضحك ثم قال: «أما إذا شئت أن أصدقك الخبر فاعلم أن الفارس سار محاذيًا لهذا الشاطئ قاصدًا الحيرة فلما بعد عني وصار على مقربة من المدينة رأيتهُ ترجل ووقف مدة فظننتهُ عائدًا إليَّ فانشغلت عنهُ برهة ثم التفت فلم أره».
فاستولى القلق على حماد وعجب لترجلها ووقوفها ولبث صامتًا يفكر ثم قال: «ومتى حدث ذلك؟»
قال: «حدث منذ أسبوع».
أما الشيخ فلما آنس من حماد بذلًا حاول المبالغة في إكرامهِ فجعل يقدم لهُ الخمر واللبن فلما رآه لا يشرب شيئًا وقد مضى بعض الليل دعاه للرقاد في الكوخ.
قال حماد: «لا أحتاج إلى رقاد».
فقال: «إذا كنت تحتقر كوخي وقد تعودت المنام على الأسرة فإني معد لك فراشًا من الحرير». ودخل الكوخ ثم عاد وفي يده ملاءة فرشها لهُ فعجب حماد لوجود تلك الملاءة عنده فتفرس فيها فإذا هي عباءة مزركشة فأجفل لرؤيتها ومد يده فتناولها ونظر إليها بضوء القمر فإذا هي عباءة هند وكان كثيرًا ما يراها عليها إذا ركبت فصاح في الرجل: «وأنى لك هذه العباءة». فضحك الراعى ضحكة يمازجها خوف ولم يجب.
فندم حماد على ما باداه بهِ من الجفاء وقال بهِدوء: «لقد أعجبني لطفك وحسن وفادتك فإني يا عماه لا أستطيع القيام بحق شكرك على هذا الإكرام ألا تخبرني ممن ابتعت هذه العباءة».
فسكن روع الشيخ وأشار إلى كلبهِ وقال: «إنها من صيد هذا الكلب».
وقال: «وكيف ذلك».
قال: «افتقدته ذات صباح فلم أجده وكان قد تعود السرح في بعض الأيام ثم ما لبث أن عاد وقد عض على هذا الرداء بعينه وجاء يجره وراءه».
فازداد قلق حماد وقال: «ومن أي جهة قدم بهِ؟»
قال: «من جهة الشاطئ».
فقال: «ألا تظنها العباءة التي كان ذلك الفارس ملتحفًا بها».
فتنحنح وتشاغل عن الجواب وحرك حاجبيهِ وكتفيهِ كأنهُ يقول لا أعلم.