لقاء هائل
فلما وصل الصخر صعد إليه ومشى نحو حافتهُ فزلت قدمه وتعثر بأذيالهِ فوقع وفيما هو يتحفز للنهوض حانت منهُ التفاتة فرأى أشباحًا خارجة من ضواحي الحيرة تطلب البحيرة فقال في نفسهِ (فلأعجلن الأجل قبل وصولهم) فتقدم فأحس بما يمسكهُ عن ذلك العمل واستولى عليهِ الضعف الطبيعي فتجلد ونظر إلى تلك الأشباح فرآها تقترب نحو الشاطئ فتأملها فإذا هي أشباح نسوة أحداهن تحمل جرة والأخرى سلًا وأخرى تسوق بعيرًا وكلهن في زي واحد فاستغرب ألبستهن المتشابهة وكلها سوداء وعلى رؤوسهن أغطية سوداء فهمه أمرهن وعلم أن تلك الألبسة لا تكون إلاَّ في الديور. فخيل لهُ أنهن راهبات خرجن قبل الفجر للاستقاء وقطف الأثمار والبقول من مزروعات الدير فحسدهن على سذاجتهن وخلو قلوبهن من لواعج الحب ورأى حاملة الجرة تقترب نحو الشاطئ ثم ما لبثت أن دنت منهُ حتى كرت راجعة كأن أحدًا يطاردها فاستأنس بخطواتها لمشابهتها خطوات هند ولكنها أضعف منها كثيرًا فعلق ذهنه بتلك الفتاة وود لو أنهُ يراها لحظة أخرى فظل يتبعها بنظره حتى رآها وقفت إلى رجل يحطب فخاطبتهُ وأشارت إلى حماد فانشغل بال حماد ومال إلى معرفة سر ذلك الخطاب ثم رآهما آتيين معًا الفتاة بجرتها والرجل بفأسهِ.
فلبث ينتظر وصولهما فتقدم الرجل أولًا وحيا حمادًا وتلطف في السلام عليهِ وحماد ينظر إلى الفتاة وهي منصرفة نحو الشاطئ لتملأ جرتها فقال الرجل لحماد: «أتأذن لي بسؤال؟» قال: «قل». قال: «من أين اشتريت هذه العباءة».
قال: «وما يعنيك من أمرها».
قال: «لأنها مسروقة من صاحبها فإذا أخبرتنا عمن باعك إياها طالبناه بها».
قال: «وما أدراك أن هذه هي بعينها إن العبي قد تتشابه».
قال: «إن صاحبها رآها بعينهِ وعرفها ولهُ فيها علامات».
قال: «ومن هو صاحبها».
قال: «الفتاة التي رأيتها الآن فإنها حالما رأتك عادت إليَّ بالخبر وقد كنا قضينا ثلاثة أيام ونحن نبحث عنها».
فلما سمع ذلك الكلام ظن نفسهُ في منام فمسح عينيه والتفت إلى ما حولهُ واستشهد وجدانه فتحقق أنهُ في يقظة فنظر إلى حاملة الجرة فرآها قد ملأت جرتها وعادت إلى رفاقها فجعل يتأمل خطواتها فإذا هي خطوات هند ولكن الجسم نحيل فقال للرجل: «ما بال صاحب العباءة لا يطالب بها بنفسهِ».
قال: «لأن صاحبتها من راهبات دير هند الصغرى ولا يؤذن لهن بمخاطبة الرجال وأما أنا فمن خدمة الدير المكلفين بمثل ذلك».
فقال حماد (وقلبهُ يكاد يطير من الفرح وهو يمسك نفسهُ ويتجلد): «وهل صاحبة هذه العباءة قديمة في سلك الرهبنة».
قال: «لا تزال حديثة وقد دخلت في طور الابتداء فإذا مضى عليها بضعة أشهر تحت الاختبار رسموها ولذلك فقد وهبت الدير كل ما كان معها من الثياب والمصاغ والدواب» فأيقن حماد أنها هند ولولا عمامتهُ ولباسهُ الحجازى لعرفتهُ لأول نظرة وهي لولا ثوبها الأسود ونحولها لعرفها. فلما أيقن أنها هي بنفسها ارتعدت فرائصهُ لما كان فيهِ من الخطر وحمد الله لنجاتهِ على هذه الكيفية وحدثتهُ نفسهُ أن يسرع إلى هند فيطلعها على حقيقتهِ فخاف عليها من البغتة مع ما آنسهُ من ضعفها فصبر نفسهُ. وخاف من الجهة الثانية أن تكون قد نذرت العفة فلا يبقى لهُ إليها سبيل فقال للرجل: «وهل نذرت العفة».
قال: «لا تنذرها قبل أن تنقضي مدة الابتداء».
فاطمأن بالهُ ونظر فإذا بالفتيات لا يزلن في شواغلهن بعيدات لا يسمعن ولا يرين وصاحبة الجرة قد وضعت جرتها على الأرض وجلست على حجر منفردة تنتظر رفيقاتها ليرجعن إلى الدير معًا.
فقال حماد للرجل: «اذهب إلى صاحبة العباءة وقل لها إني لا أعطي العباءة إلاَّ تسليمًا بيدها».
قال: «قلت لك يا مولاي أنها لا تستطيع ذلك».
قال: «إليك هذا البرد» وخلع برد النعمان عنه من العباءة ادفعهُ إليها بدلًا وقال له: «أدفعه إليها بدلًا من عباءتها».
فتناول البرد وتأملهُ فإذا هو أثمن من العباءة كثيرًا فأسرع بهِ حتى أتى الفتاة وهي لا تزال جالسة وحدها فدفعه إليها وقال: «لم يعطني العباءة ولكنهُ دفع إليّ هذا البرد». فحالما رأتهُ صاحت للحال حماد حماد … وتركت الجرة وأسرعت نحوه وكان هو يراقبها ليرى ما يبدو منها فلما رآها نهضت وأسرعت نحوه لم يبق عنده ريب بشأنها فأسرع لملاقاتها وقد نزع العمامة عن رأسهِ فلما التقيا وقعت هند مغميًا عليها فاستقلت على جنب حماد فأنهضها وكان خادم الدير قد رآها تسرع نحو حماد فلما أغمي عليها أسرع بالماء ورشها فأفاقت وهي تقول حماد حماد حماد …. وهو يقول هند هند حبيبتي هند أأنت حية وأنا أحسبك غريقة في هذا الماء ولو تأخر قدومك لحظة أخرى لذهب حماد طعامًا للأسماك.
قالت: «حماك الله يا حبيبي». ثم غلب عليها الحياء فغطت رأسها بالنقاب الأسود وجلست متأدبة وقد امتقع لونها وتولاها الهزال. فقال لها: «أين والدك يا هند». قالت: «أما سمعتم خبره إنهم قتلوه وأظنهم قتلوا والدتي آه من تقلبات الأيام». وأوغلت في البكاء.
قال: «هل تحققت مقتلهُ؟»
قالت: «لم أره ولكنني سمعت بهِ ولولا ذلك لرأيتني معهُ حينما كان لأني لما قبضوا عليهِ وعلى والدتي امتطيت جوادي وتعقبت أثرهما فوصلت الحيرة فبت في هذا الدير وقد كنت أتردد إليه قبلًا فأشارت عليَّ الرئيسة أن أبقى عندها وأبعث من يستطلع الخبر فعاد المخبرون وقد أكدوا مقتلهما فلم يبق لي نصير إلاَّ حبيبي حماد ومن يخبرنى بقدومهِ فإن الخادمة التي كنت أرسلتها للبحث عنك في بيت المقدس لم تعد بعد فاستخدمت راعيًا بالقرب من هذه المدينة كنت أتردد إليه متنكرة ليسأل عن قدومك إلى الدير فقطع أملي من دخولك الدير لأن أهلهُ لا يقبلون فيهِ واحدًا من الشام فضقت ذرعًا واستولى عليَّ اليأس ولم يبق لي في الدنيا مطمع بعد فقد والديَّ وضياع حبيبي وزوال عز الملك وخسارة الأموال والعقار ولا أنكر عليك إني هممت بالانتحار غير مرة ولكن قلبي لم يطاوعني لأني لم أيأس من لقائك بعد. فلم أجد وسيلة غير الترهب في دير أعرف رئيستهُ وبعض راهباتهِ فطلبت ذلك فقبلوني مبتدية تحت التجربة فوهبتهم كل ما لي من الثياب والفرس ولم أحفظ شيئًا غير الأساور وهي عربون المحبة بيننا فأنها مخبأة بين أثوابي وكنت قد أضعت عباءتي هذه أثناء رجوعي المرة الأخيرة من عند الراعي لفرط قلقي وهواجسي على أثر ما أنبأني بهِ من خبر الدير فوقعت العباءة عني ولم أنتبه فبحثت عنها في اليوم التالي فلم أجدها وهو اليوم الذي طلبت فيها الانضمام إلى الرهبنة فأخبرتهم إني فقدت هذه العباءة فإذا عثروا بها كانت حلالًا للدير وهذا هو اليوم الثالث من دخولي وقد كلفوني تجارب كثيرة فحملت الأحمال واشتغلت الأشغال الشاقة فزادني ذلك ضعفًا على ضعف».