دير هند الصغرى
وكان الخادم واقفًا وقد ذهل لما رآه فتقدم إلى هند فأومأ إليها أن عملها هذا مخالف لشروط الرهبنة فقالت: «دعنا نذهب إلى الرئيسة» فنهضت ونهض حماد ومشيا لمقابلة الرئيسة وفيما هما في الطريق سألتهُ عن سبب تنكره وما مر بهِ فأحكى لها حكايته بالاختصار حتى أتى إلى حديث المدائن والبحث عن والدها فلما بلغ إلى هناك تنهدت هند وقالت: «آه يا حبيبي إني سعيدة بلقياك ولكن حظي غير تام لما قاسيته من فقد والدي».
فقال لها: «إننا لم نتحقق مقتلهما وقد كلفت سلمان بالبحث عنهما وموعدنا الالتقاء في دير هند هذا في الغد وهو اليوم الثالث من افتراقنا ومن عرف خبرًا أطلع الآخر عليهِ فقد فزت بطريدتي فعسى هو أن يفوز بمن يبحث عنهم والأمير عبد الله معهم».
وكانا ماشيين في وسط المدينة لا يهمهما استغراب الناس لمسيرهما معًا بل كانا في شاغل من تجاذب القلوب لا يكادان يريان الطريق فلما وصلا الدير أسرع الخادم إلى الرئيسة فأنبأها بما شاهده من جرأة ذلك الحجازي على الراهبة المبتدية مما يخالف العهود المعطاة من المسلمين. فأطلت الرئيسة من باب الدير فرأت هندًا وحماد قادمين وكان حماد قد نزع عمامتهُ فعرفت من ملامح وجههِ أنهُ عراقي فأرادت استطلاع السر فدخلت بهِما إلى غرفة منفردة فهم حماد فقبل يد الرئيسة فعرفت أنهُ مسيحي فسألتهُ عن أمره.
فقال: «إذا أذنت فأخبرك أن هذه الفتاة خطيبتي منذ أعوام وقضت حروب الشام بافتراقنا لا يعلم أحدنا بمكان الآخر حتى أذن الله باجتماعنا على يدك».
وتأملت الرئيسة بوجه حماد وهو يكلمها فآنست في وجههِ هيبة وجلالًا فقالت: «ألست عراقيًا؟»
قال: «نعم ومن بني لخم».
قالت: «ويخال لي أن هندًا شامية من غسان».
قال: «نعم».
فقال: «وكيف اجتمعتما؟»
قال: «كذلك قدر الله».
أما هند فتذكرت أول معرفتهُا حمادًا وتذكرت والديها ويأسها من حياتهما فترقرقت الدموع في عينيها.
فلحظت الرئيسة فيها ذلك فقالت لها: «ما بالك تبكين يا ابنتي» وكان حماد قد أدرك سبب بكائها فقال: «أظنها تبكي لضياع بعض أقاربها في أثناء حرب الشام».
فجعلت تخفف عنها وتعزيها وتذكر حماد الأمير عبد الله وسلمان فصبر نفسهُ ليرى ما يأتي بهِ الغد وقال للرئيسة: «هل ترين ما يمنع خروج هند من سلك الرهبنة».
قالت: «لا أرى مانعًا لأنها لم تنذر العفة بعد».
قال: «فلتبق إذا يومًا آخر في ضيافتك لأنني على موعد مع خادمي باللقاء هنا غدًا وقد ذهب للتفتيش عن ضائع لنا فاحتفظي بها ريثما أعود فإني ذاهب إلى راع في ضاحية الحيرة تركت فرسي عنده البارحة».
ثم نهض فلبس العمامة لئلا ينكره الراعي وترك العباءة عند هند وهمَّ بالخروج فأمسكتهُ قائلة لا تذهب فإني لست تاركتك لحظة بعد هذا اللقاء فقد كفاني ما قاسيتهُ فلا يفرق بيني وبينك إلاَّ الموت.
قال: «والفرس».
قالت: «دعنا من الأفراس أو أرسل من يأتي بهِ فما أنا راضية بذهابك ولا نخرج من هذا الدير إلاَّ معًا إما إلى القتل وإما إلى الحياة».
فعذرها والتفت إلى الرئيسة فطلب إليها أن تنفذ رسولًا من قبلها يستجلب الفرس فبعثت واحدًا يعرفهُ الراعى ويثق بهِ وأطلعهُ حماد على علامة يتقدم إليه بها وبعث إليه دينارين ولبث ينتظر عودتهُ.
أما الرئيسة فقالت لحماد: «لا يخفي عليك يا سيدي أننا في دير راهبات لا يؤذن للرجال دخولهُ إلاَّ إذا نزلوا في دار الأضياف وأما اجتماعهم بالراهبات فمحظور فإذا رأتك الراهبات مع هند وهن لا يعرفن علاقتكما ساءوا الظن فهل تتفضل فتنزل في دار الاضياف ريثما يأتي الغد».
قال: «أفعل ما تأمرين». وودع هندًا ونزل يصحبهُ الخادم إلى دار الاضياف فمرا بمربط الخيول فرأى أفراسًا شاهد بينها فرسًا يشبه فرس سلمان فاستبشر وأسرع إلى الدار فلقيهُ سلمان فهمَّ أحدهما بالآخر وهما يبتسمان فاستبشرا معًا فقال سلمان: «هل ظفر سيدي بهند؟»
قال: «نعم ولكنها راهبة في هذا الدير».
قال: «وهل نذرت العفة؟» فضحك حماد وقال: «لا وأنت هل ظفرت بالأمير عبد الله؟»
قال: «ظفرت بهِ وبجبلة وامرأته».
قال: «أين هم؟»
قال: «سيصلون إلينا الليلة أو غدًا وسيأتون متنكرين لأنهم كانوا مختبئين عند سيدي الأمير عبد الله ولولاه لكان حموك جبلة في عالم الأموات ولكن الأمير عبد الله حالما علم بالقبض عليهِ استرضى الذين أمسكوه وأظهر للناس أنهُ قتل وخبأه في منزلهِ بتلك المزرعة ريثما يتمكن من العثور على هند أو الاجتماع بك فلما وصلت إليهم وأنبأتهم بخبرك أنفذني لأطمئنك وأساعدك في البحث عن هند ريثما يقدمون هم إلينا».
فانشرح صدر حماد أيما انشراح وحمد الله على انقضاء الأزمة بالتي هي أحسن ولم يملك صبرًا عن تبشير هند ببقاء والدها حيًّا.
وهم بالرجوع إلى الدير فرأى هندًا واقفة في الشرفة تطل على دار الضيافة لأنها لم يعد يرتاح بالها على حماد إلاَّ إذا كان أمامها فلما رأتهُ عائدًا وعليهِ أمارات الدهشة أومأت إليه فنظر إليها وضحك فضحكت هي وقد أشرق وجهها ونسيت كل متاعبها وقالت: «ما وراءك».
قال همسًا: «إن والدك ووالدتك قادمان إلينا غدًا».
فأبرقت أسرتها وأسرعت لملاقاتهِ عند الباب ولم تعد تعبأ بقوانين الدير. فلما لقيتهُ مدت يدها إليه وصافحته وضغط كل منهما على يد الآخر ضغطة ما أدراك ما وراءها. ولا تسل عن حديث القلوب وجواذب العيون.
فقالت هند: «هل أنت متحقق قدوم والديَّ».
قال: «هذا سلمان قد جاء بالخبر اليقين ولكنهم قادمون ومعهم الأمير عبد الله متنكرين فاحذري أن يلحظ أحد ما نحن فيهِ لئلا نقع في شر أعمالنا فتكون البلية الثانية شرًا من الأولى».
قالت: «وسأخبرك خبرًا جديدًا حدث ساعة خروجك من غرفة الرئيسة».
قال: «وما ذلك».
قالت: «إن خادمتنا الأمينة التي كانت تسعى في اجتماعنا ولولاها لا أدري ما تم لنا قد وصلت الدير الآن بعد أن قضت أيامًا بالبحث والتفتيش ولم تكن عالمة بوجودي هنا ولكنها جاءت تتنسم الأخبار من الراهبات فلقيتني وسررت بها لأنها ذات فضل علينا».
قال: «لقد أذكرتني بفضل سلمان الشهم الغيور فلا أدري بماذا أكافئهُ على مروءتهُ وحسن صنيعه». ثم قال: «فاذهبي الآن إلى الرئيسة ودَّعيها على أن نفارقها غدًا بعد وصول والديك والأمير عبد الله واحذري أن تسمي اسم أحد منهم».
قالت: «لا تخف من ذلك».
وتحولت وتحول هو إلى دار الضيوف ومكث هناك إلى صباح اليوم التالي.