قران سعيد
فاستحسن حماد الخروج لملاقاة القادمين في الطريق فخرج وسلمان معهُ على الخيول وهند لا تعلم وقطعا مسافة حتى وصلا عين ماء لا بد للقادم من المدائن إلى الحيرة من الوقوف عندها فترجلا وجلسا ولم تمض برهة حتى رأيا هندًا وخادمتها قادمتين مسرعتين على الأقدام وهند بثوبها الأسود الجديد فبهِتا وصاح حماد: «ما الذي أتى بك يا هند». قالت: «سامحك الله ألم أقل لك إني لم أعد أستطيع البعاد عنك لحظة مخافة أن نعود إلى ما كنا عليهِ من الفراق». فشكرها وجلسوا ولم يكد يستتب بهم الجلوس حتى رأوا الغبار يتصاعد من جهة الفرات فتقدم سلمان لتحقق القادمين فعاد ضاحكًا مبشرًا فنهضوا جميعًا وتهيئوا لاستقبال القادمين ولكن سلمان عاد فأخبر الركب أن حمادًا وهندًا ينتظرانكم هنا فقبل وصلوهم إلى العين ترجلوا جميعًا وهم جبلة مسرعًا إلى حماد فضمه إلى صدره وجعل يقبلهُ والدموع تتساقط من عينيه وأسرعت سعدى إلى هند وجعلت تقبلها وتبكي ثم تبادل جبلة وسعدى فقبلت سعدى حمادًا وجبلة هندًا وأما عبد الله فظل واقفًا يتأمل في ذلك المنظر المؤثر فلما انتهت سعدى من تقبيل حماد تقدم إليه وضمه إلى صدره وجعل يقبلهُ ويبكي بكاء مرًا ولم يستطع أحدًا إبعاده عنه حتى خافوا عليهما وهم لا يعلمون سبب ذلك وبعد برهة انفصل عنه وقد تبللت عيناه وقال: «لا تلوموني على ما رأيتم من شدة تعلقي بحماد وإن ما ترونه من دموعي إنما هو دموع الفرح فإن حمادًا ملكي وولدي وصديقي وفخري وسندي ومما زادني تعلقًا أنهُ قد انتقم لوالده وشهد سقوط دولة الفرس ومحا العار عن لخم ورفع ثقلًا عن عاتقي حملته منذ نيف وعشرين سنة» ثم تقدم عبد الله إلى هند فقبلها والجميع يبكون بكاء الفرح وسلمان ينظر إليهم وقلبهِ يكاد يطير فرحًا فلما سكت الجميع وهدأ روعهم وقف سلمان وقال: «أتسمحون لي بكلمة أقولها بين ملكين وملاكين. لقد شاركتكم في فرحكم بهذا الاجتماع السعيد فشاركوني بفرحي بمقتل ثعلبة الخائن الذي كان سبب كل هذه الأتعاب». ثم نهض جبلة والدموع لا تزال في عينيه وقال: «أما أنا فلا أقدر أصف خجلي من ولدي حماد لما سببتهُ لهُ من الشقاء وما بذلهُ هو ورفيقه أو قل والده الأمير عبد الله من الجهد في إنقاذنا من الموت» فنظر سلمان إلى جبلة وقال: «ألا تزال سيدتي هند تمتنع على سيدي حماد ومن يا ترى أفضل لديك حماد أم ثعلبة». فضحكوا جميعًا.
ثم نهض عبد الله وقال: «اعلموا أيها السادة إننا في خطر عظيم الآن ولم يعد يحلو لنا المقام في هذه البلاد لأننا أعداء الفرس بالطبع وأعداء المسلمين بالفعل لما ارتكبناه من مخالفة أوامر أميرهم فلا شك أنهم سيبحثون عنا ويبذلون كل سعي في القبض علينا».
فقال سلمان: «لقد نطقت بالصواب وأزيد على ذلك أننا لا نبرح الحيرة قبل أن نعقد للعروسين ثم نذهب حيثما تشاءون ولو زعل حماد وهند …» فضحك الجميع.
فقال جبلة: «ذلك هو الرأي الصواب وإذا استحسنتم فلتكن وجهتنا القسطنطينية دار الإمبراطور هرقل نقضي بقية العمر هناك إذا لم يبق لنا مقام في الشام ولا العراق» قالوا: «حسنًا» ونهضوا إلى كنيسة بقرب الدير عقدوا للعروسين بالاختصار.
ولا يحتاج القارئ إلى تقدير قيمة تلك الساعة السعيدة فأنها من ساعات العمر، وبعد الإكليل ركب الجميع وساروا متنكرين نحو القسطنطينية فوصلوها بعد بضعة عشر يومًا وأقاموا فيها حتى قضى الله بما شاء.