عبد الله في السجن
فلنتركهما سائرين إلى عَّمان ولنعد إلى عبد الله وما كان من أَمره فقد تقدَّم أنهُ سار إلى بصرى بتهمة الجاسوسية مخفورًا وهو يعجب للعنف الذي اتخذه الرجال في القبض عليهِ ونظرًا لعلمهِ ببراءَة ساحتهِ تحقق أنهُ لا يلبث أن يقف أمام الحارث حتى يثبت براءَتهُ فيفرج عنهُ فيذهب إلى عمان حيث يلتقي بحماد ثم يأتيان لوفاء النذر بدير بحيراء وهذا ما حملهُ على ضرب الأجل شهرًا وقد فاته السبب الحقيقي للقبض عليهِ.
قال: «عبد الله.»
قال: «من أي البلاد أنت»
قال: «من العراق.»
«وما هي مهنتك»
«أني من أمراء العراق أعيش من ريع أملاكي أو أتجر ببعض أصناف التجارة.»
«وما الذي جاءَ بك إلى هذه الديار»
«جئت لأَفي نذرًا نذرتهُ لدير بحيراء.»
«وما هو نذرك»
«أن أقص شعر ولدي في العشرين من عمره.»
فإلتفت رومانوس إلى ثعلبة وتخاطبا سرًا ثم نظر ثعلبة إلى عبد الله واستقدمهُ حتى دنا منهُ فقال لهُ: «كيف تدَّعى أنك جئت لقص شعر ابنك وأنت مقيم هنا منذ أشهر ولم تقصهُ.»
قال: «لأني نذرت أن لا أقصهُ إلا في يوم أحد الشعانين القادم.»
فضحك استخفافًا بتلك الحجة وقال: «تلك حجج واهية لا تردُّ عنكم تهمة فأنتم جواسيس من قِبل ملوك الحيرة ولولا ذلك ما أقمتم في قرية بعيدة وتسترتم عنا وحاولتم إخفاء أمركم فمن كان في مثل ما أنتم فيهِ من اليسار لا يترك مدينة بصرى بمنتزهاتها وشوارعها ومراسحها وملاعبها ويقيم في قرية حقيرة مثل قرية غسام فاعترف بالحقيقة لئلاَّ يزداد العقاب عليك.»
قال: «قد قلت لكم الصدق كل الصدق.»
فقال: «ليس للصدق نصيب من مقالك وزد على ذلك أنكم تدعون بالانتساب إلى أمراء العراق وقد أمسكنا غلامك أمس بسرقة.»
فلم يفهم عبد الله معنى هذا القول وظنهُ يقولهُ ليستطلع شيئًا جديدًا عنهُ فقال: «لعلكم أسأتم الفهم فإننا لا نعرف مثل هذه الأعمال ولدينا من نعم الله ما يكفينا مؤُونة السرقة أو غيرها.»
فهز ثعلبة رأسهُ استهزاءً ثم أخذ يلاعب شاربيهِ عجبًا وقال: «قد تحققت الآن جاسوسيتك وسنكشف ذلك عيانًا.» ثم قام إليه وأخذ يفتش أثوابهُ وجيوبهُ بدعوى البحث عن أوراق أو أشياء أخرى تؤَيد تهمتهُ فوجد في بعضها حقًا فتحهُ فإذا فيهِ خاتم فيهِ فص كبير من العقيق الأحمر فتأَمله ثعلبة فإذا عليهِ كتابة بالحرف السطرنجيلى وهو من الأقلام التي كانت مستعملة في العراق فحالما قبض ثعلبة على الخاتم ظهرت البغتة على عبد الله ولكنهُ تجلد.
فجعل ثعلبة يقّلب الخاتم بين يديهِ ويتأَملهُ فلم يستطع قراءتهُ فإلتفت إلى رجل من التراجمة حولهُ وقال لهُ: «هل تستطيع قراءَة ما على هذا الخاتم.»
فأخذه وقرأَه وجعل ينظر إلى عبد الله تارة والى الخاتم أخرى ظهرت على وجه عبد الله ملامح الخوف والحضور ينتظرون ما يقولهُ الترجمان حتى ملَّ ثعلبة الانتظار فقال لهُ: «قل ماذا قرأت.»
قال: «أن على هذا الفص اسم «النعمان بن المنذر.» وعليهِ شارة الملك» فبهت الجميع وجعلوا يتأملون ذلك الخاتم واحدًا واحدًا وينظرون إلى عبد الله وأخيرًا خاطبهُ رومانوس قائلًا: «كيف اتصل هذا الخاتم إليك.»
فأجاب وهو يحاول أن لا يتلجلج وقال: «ابتعتهُ من بعض الصاغة.»
فانتهره ثعلبة قائلًا: «أتقول بعد هذا أنك لست جاسوسًا وأنت تدعي أنك ابتعت خاتم النعمان بن المنذر ملك العراق من بعض الصاغة. متى كانت خواتم الملوك تباع في الأسواق قل ما الذي أوصل هذا الخاتم إليك.» فلم يجب.
فأعاد السؤَال عليهِ ثانية وثالثة فأصر على الصمت.
فتفاوض ثعلبة ورومانوس سرًا ثم قال لعبد الله: «أن وجود هذا الخاتم معك مما يزيد الشبهة بخيانتك إلا إذا أخبرتنا كيف وصل إليك وما هي حكايتهُ.»
فسكت ولم يجب. فازداد حنق ثعلبة وقال لهُ: «قل أجب.»
فقال عبد الله: «قلت لك أني لا أعرف عنهُ غير ما قلتهُ لك وهو أنهُ وصل إليَّ بالعرض في سوق الصاغة فالظاهر أن حضرة المترجم لم يحسن القراءَة أو لعل ما قرأهُ اسم رجل يشبهُ اسم الملك النعمان.»
فضحك ثعلبة وقال: «هذه دعوى فاسدة ولو كان والدي الحارث هنا الآن لأثبت نسبة هذا الخاتم إلى النعمان ملك العراق لأنهُ شاهد ختمهُ على كتبهِ مرارًا وعلى كلٍ فإنك ستبقى في السجن حتى تعترف بالحقيقة وإلاَّ فأنت مقتول شرَّ قتلة.»
قال عبد الله: «افعل ما بدا لك فما أنا ممن يخافون القتل لأني برئ.»
قال: «سترى عاقبة وقاحتك هذه عندما يُأتى بابنك الغلام الغر ونريك خيانتهُ رأى العين.»
ثم إلتفت ثعلبة إلى الحراس الأربعة وكانوا لا يزالون وقوفًا على الباب وقال: «خذوه بعد أمر البطريق (القائد رومانوس) إلى برج القلعة وأبقوه مخفورًا ريثما ننظر في أمره.»
وكان لقلعة بصرى برج متشامخ يستحيل الفرار منهُ لأن المسجون إذا حاول الفرار لا طريق لهُ إلا النافذة فإذا وثب منها لا يدرك الأرض إلا ميتًا.
فصعدوا بهِ طابقين آخرين وأدخلوه البرج وهو غرفة صغيرة ذات نافذتين وباب صغير فاقفلوا الباب عليهِ وتركوه وشأنهُ فلما خلا بنفسهِ أخذ يتأمل في ما مرَّ بهِ في الليل الماضي وذاك الصباح ويراجع ما سمعهُ عن ابنهِ فلم يفهم معنى اتهامهِ باللصوصية ولكنهُ شكر الله لوقوعه هو ونجاة حماد لأنهُ ما زال متحققًا تخلصهُ من تلك الشراك على أن ظهور ذلك الخاتم عرقل مساعيهُ ولبث برهة يفكر ثم نهض إلى نافذة البرج الشرقية فأشرف منها على مدينة بصرى كلها بناياتها وشوارعها وأسوارها وحولها الأحواض المائية الكبيرة وأشعة الشمس تنعكس عن أسطحتها وكان الجو صافيًا فنظر إلى ما وراء ذلك فشاهد في عرض الأفق جبلا عليهِ بناء يكاد البعد يحجبهُ عن نظرهِ ولكنهُ عرف أنهُ قلعة سرخد (صلخد) الشهيرة وبينها وبين بصرى طريق حجري على استقامة واحدة مرصف بالحجارة الضخمة كسائر الشوارع الرومانية الكبرى وخيل لهُ أن بصرى وضواحيها حديقة يانعة في وسط صحراء قاحلة لأن بلاد حوران جبلية جرداءُ غبراءُ اللون.
وتحوَّل من هناك إلى نافذة جنوبية فأشرف على أرض أكثر خصبًا من تلك يتراءى فيها عن بعد قرية أم الجمال لا يتميز شيء من أبنيتها لبعدها فتذكر حمادًا ومسيرهُ إلى عَّمان فقال في نفسهِ (لعلهُ الآن يقرب ذلك المكان مع سلمان). ثم هاجت بهِ هواجسهُ وتذكر ما مرَّ بهِ منذ شبوبتهِ وخاف أن يقتل قبل أن يبوح لحماد بسره وقد كتمهُ عنهُ وعن سائر أهل الأرض نيفًا وعشرين سنة فتراكمت عليهِ الهواجس حتى نسي موقفهُ وما هو فيهِ من الخطر الشديد.
فقضى نهارهُ في مثل ذلك فجاؤُوه ببعض الطعام فلم يتناول منهُ شيئًا وبات تلك الليلة وعاد في صباح اليوم التالي إلى النافذة فحدثتهُ نفسهُ أن يثب من ذلك البرج لعلهُ ينجو فنظر إلى أسفلهِ فإذا هناك هوة عميقة لا يمكن أن يصل إلى قاعها حيًا فصبر نفسهُ ينتظر ما يجيء بهِ القدر.
وفى اليوم الثالث أفاق على أصوات النواقيس من الأديرة والكنائس فأطلَّ من النافذة المشرفة على المدينة فرأى الناس في هرج ومرج وقد زينت الشوارع بسعف النخل وأغصان الزيتون وخرج الناس زرافات ووحدانًا يحملون الشموع وأغصان الزيتون يأمون الديور والكنائس وفيهم الرجال والنساءُ وأولادهم بين أيديهم يحملون الأزهار والشموع وقد تربوا بأحسن ما لديهم من اللباس وأنواع الزينة فعرف أنهُ يوم أحد الشعانين والناس يحتفلون بهِ على جاري العادة فهاجت هواجسهُ وتذكر حمادًا وموعدهُ بنذره فعظم عليهِ الأمر واشتد بهِ ذلك حتى بكى ولكنهُ ما لبث أن عاد إلى صوابهِ وتجلد تجلد الرجال المحنكين الذين خبروا الدهر وعرفوا تقلبات الزمان فقال في نفسهِ (إن الدهر لا يستقرُ على حال فلا بد لهذه الأزمة من إنفراج).
فقضى ذلك اليوم وبضعة أيام أخرى لا يأكل إلا قليلًا وقد هدأ روعهُ وجعل يفكر في وسيلة ينجو بها من تلك الورطة وهو في كل ذلك يحمد الله لنجاة حماد من ذلك لأنهُ لا يصبر على الأذى ولا تعوَّد مشاق الزمان وكوارث الحدثان. ففي ذات صباح جاءه الحراس وأمروه بالنزول إلى المجلس فنزل وقد استعد للدفاع فلما وقف بين يدي رومانوس وثعلبة قال لهُ هذا: «كيف ترى نفسك.»
قال: «أرى أني أسير بين يدي حضرة البطريق.»
«لماذا لا تعترف بحقيقة أمرك ونحن نعدك بالإفراج.»
«قلت لكم الحقيقة فلم تصدقوني.»
«انبئنا أين هو ابنك فنعفو عنك.»
«من أين لي أن أعلم ذلك وقد أخذتموني على غرة وهو خارج البيت فلا أعلم مقرهُ.»
ثم ناداه رومانوس قائلًا: «أنظر يا هذا إذا أنت أصررت على الإنكار لا نرى بدَّا من إرسالك إلى مولانا الإمبراطور في حمص فهو أولى بالاقتصاص منك وإذا وصلت إليه لا ينجيك من بين يديهِ حيلة فالأفضل لك أن تعترف بالحقيقة هنا وتنجو بنفسك.»
قال: «قلت لكم الحقيقة فلم تصدقوني فافعلوا ما بدا لكم.»
فأمر رومانوس بإعداد خفر يسير بعبد الله والخاتم إلى حمص فيدفعهما إلى الإمبراطور هرقل فقال عبد الله بنفسهِ: «لعل في ذلك بابًا للفرج فإن الإمبراطور أكثر رأفة وتعقلًا من هؤلاءِ.» فاركبوه فرسًا وهو موثق وحولهُ عشرة خفراء بينهم خمسة من جند الروم بلباسهم المتقدم ذكرهُ وقد ركبوا الخيل بلا ركاب على جارى عادتهم.