جواد حمَّاد
فركبوا حتى جاؤوا القافلة خارج المدينة فجلسوا للاستراحة قليلًا وعبد الله لا يرتحاح إلا إلى السفر استعجالًا لملاقاة حماد ولكنهُ أطاعهم فجاؤُوه بفرس عليهِ سرج ثمين فلما وقع نظره عليهِ اختلج قلبهُ في صدره لأنهُ يشبهُ فرس حماد ثم تأَملهُ جيدًا فإذا هو هو بعينهِ فأعاد نظره على السرج فإذا هو سرج فرس حماد فدنا منهُ ولمسهُ بين عينيهِ فآنس بالفرس حنوًّا إليه وارتياحًا إلى لمسهِ فتحقق أنهُ هو فرس حماد بعينهِ فبغت وكان أبو سفيان واقفًا على مقربة منهُ يراعيهِ فلما رأَى ذلك منهُ سأَلهُ عن أمره.
فقال: «أني في ريب من أمر هذا الفرس لأنهُ فرس ولدي.»
فقال أبو سفيان: «وكيف عرفتهُ.»
قال: «عرفتهُ من لونهِ وقده وسرجه وقد ربيتهُ منذ كان مهرًا رضيعًا وأعرف أمهُ قبلهُ.»
فعجب أبو سفيان لهذا الإتفاق الغريب وقال لهُ: «وأين كان ولدك.»
قال: «كان راكبًا من بصرى إلى عمان فأين ظفرتم بهذا الفرس.»
قال: «ظفرنا بهِ تائهًا بالقرب من الزرقاء.»
فخاف عبد الله أن يكون لضياع هذا الفرس سبب يوجب قلقًا فأعاد السؤَال ثانية عن كيفية عثورهم عليهِ.
فقال أبو سفيان: «كنا قادمين من الحجاز إلى الشام منذ بضعة أسابيع وفيما نحن بالقرب من الزرقاء نحاذر أن نقترب من مسبعتها إذ شاهدنا هذا الفرس تائهًا في الصحراء فأرسلت بعض رجالي في أثره وبعد العناء والمشقة قبض عليهِ فجاءَ بهِ إليَّ فسقناه معنا إلى غزة ثم جئنا بهِ إلى هنا كما ترى.»
فبهت عبد الله ولبث صامتًا لا يتكلم وقد غلبت الهواجس عليهِ مخافة أن يكون حماد قد ذهب فريسة السباع وفرَّ جواده منهُ وهو يعلم أن الفرس أصيل لا يترك صاحبهُ إلَّا إذا مات أو أُسر أو غاب عنهُ فترقرقت الدموع في عينيهِ رغمًا عنهُ ولكنهُ تجلد وقال: «أراني كثير القلق على ولدي ولا يهدأ لي بال حتى أتفقد المكان الذي وجدتم الفرس فيهِ.»
فقال أبو سفيان: «هو قريب من طريقنا إلى عمان فإذا شئت عرجنا إليهِ وبحثنا معك عما تريد فإن أمر ولدك يهمنا كما يهمك.»
ثم ركبوا أَما عبد الله فلم يشأ أن يركب فرس ابنهِ بعد ما رأيهُ من أَمره فأركبوه غيره وساروا وهو لا ينبس ببنت شفة لاشتغالهِ بالهواجس فقضوا يومين سائرين وعبد الله لا يأكل ولا ينام إلا قليلًا حتى صاروا على مقربة من الزرقاء فقال أبو سفيان: «ها أننا بقرب المسبعة فلنترك القافلة وجمالها وأحمالها ولنصطحب بعض الفرسان إلى ذلك السهل حيث عثرنا على الفرس يركض فيهِ.»
فعرجوا وهم عشرة رجال وفيهم أبو سفيان وعبد الله وساروا يحاذرون أن يلقاهم أسد أو وحش آخر على أنهم لم يكونوا يخافون ذلك والوقت نهار وهم كثاره فلم يسيروا إلَّا قليلًا حتى وقف أبو سفيان وقال: «هذا هو المكان الذي عثرنا فيهِ على الفرس فقد رأَيتهُ يركض في هذا السهل.»
فقال عبد الله: «وأين هي المسبعة.»
قال: «هي إلى يميننا فإذا رأَيت أن نعرج نحوها فعلنا.»
فقال عبد الله: «لا أراني قادرًا على العود قبل أن أقتفي أثر حوافر الجواد لعلي أقف على أثر ولدي فإني أخاف أن يكون قد ذهب فريسة الوحوش والعياذ بالله.» فقال أبو سفيان: «مر بما تشاء فإننا بين يديك.» وأمر رجالهُ فتفرقوا بين التلال يبحثون عن آثار الآدميين وبعد برهة عاد أحدهم يسوق جواده زميلًا حتى دنا منهم فقال: «رأَيت آثار أناس بالقرب من شجرة هناك.»
فهمز عبد الله جواده وتبعهُ أبو سفيان في أَثر الرجل حتى دنوا من المكان فإذا هناك شجرة كبيرة تحتها آثار جواد مقتول لم يبق منهُ إلَّا جمجمتهُ وسرجه وبعض عظامهِ فعرف عبد الله من السرج أنهُ جواد سلمان خادمهِ فصاح قائلًا: «هذا هو جواد سلمان فأَين حماد وسلمان.» وأخذ يبحث حول الشجرة وبالقرب منها فرأَى آثار نسيج عرف بالتأَمل فيهِ أنها عباءَة فظنها عباءة حماد قد مزقتها أنياب الوحوش فلطم كفًّا بكف وقال: «وهذه هي عباءَتهُ فأَين بقاياه أَلعل الأسود أكلتهُ كلهُ.» قال ذلك وتناول قطع العباءَة وجعل يقبلها ويذرف الدموع ويصيح: «وا ولداه قد أكلتك السباع آه أين أنت.» ولم يعد يستطيع الوقوف.
فتأثر أبو سفيان وكل من حضر من حالهِ ولولا خشونة البداوة وتعودهم القتل والنهب لبكوا معهُ أَما أبو سفيان فقال لهُ: «هون عليك يا أخا لخم فإننا لم نتحقق موت الغلام بعد وأنت لم تعثر بأَثر من أثار جثتهِ.» وأخذ يخفف عنهُ ويطمئنهُ بمثل هذا الكلام وهو لا يهدأ لهُ بال ولا ينفك عن البكاءِ بل جعل يلطم كفًا بكف ويقول: «أهذه هي آخرة حياتك يا حماد آه من لي بالأنياب التي نهشت جلدك الناعم فأحطمها وأين تلك المخالب التي غرست أظافرها في لحمك فأُمزقها كما مزقتهُ آه وا ولداه أَهذا هو وفاء النذر أَهذه عاقبة الاصطبار عشرين عامًا لنقص لك شعرك.»
فلما رأى أبو سفيان شدة اضطراب عبد الله وعظم بكائهِ رقَّ لهُ وخاف عليهِ فجلس إلى جانبهِ وأمسكهُ بيده وأخذ يخفف عنهُ بما يؤَّملهُ ببقاء ابنهِ حيًّا وقال لهُ: «إن ما رأيناه من الآثار لا يدل على شيء مما خفتهُ فلو كان الأسد فتك بالغلام لرأَيت شيئًا من بقاياه وهب أن الأسد أكل ثيابهُ فهو لا يستطيع أن يزدرد سيفهُ ورمحهُ فلو كان ما تظنهُ صحيحًا لرأَيت سلاحه باقية هنا على الأقل فلعلهُ فرَّ ونجا ولم يفتك الأسد بغير هذا الفرس إرجع إلى صوابك وتبصر في الأمر فإنك رجل عاقل خبير وزد على ذلك أن البكاء لا يجديك نفعًا هلمَّ بنا نبحث في هذا الجوار لعلنا نقف على ما يكشف لنا الغامض.»
فقال عبد الله: «صدقت يا أخا قريش أن البكاءَ لا يجديني نفعًا ولكنني أخاف إذا بحثت أن لا أَزداد إلَّا فشلًا ويأَسًا فدعني أبكي ولدي وأقبل عباءَتهُ في هذه الصحراء حتى يلقاني الأسد الذي افترسهُ فإما أن أنتقم لهُ منهُ أو أن يفترسني فنموت جميعًا فإن ذلك خير لي وأبقى.»
فما زال أبو سفيان يدافعهُ حتى سكن روعه فنهض وسار ماشيًا بين التلال والصخور وأبو سفيان يصحبهُ ورجالهُ منبثون في أنحاءِ السهل يساعدونهما في إلتفتيش فوصل عبد الله وأبو سفيان إلى غدير صغير أشرفا عليهِ من أكمة فآنس عبد الله عند الغدير شبحًا فهرول نحوه فإذا بهِ ثياب وسلاح فتأَملها فإذا هي عباءَة حماد ورمحهُ وسيفهُ فضم السيف إلى صدره وصاح: «هذا هو سلاحه وهذه هي عباءتهُ لا تلك فأين هو؟» فأخذوا يبحثون في ذلك الجوار حتى ملوا إلتفتيش وكادت الشمس تميل إلى الأصيل ولم يجدوا شيئًا فتحقق عبد الله أن حمادًا قد ذهب فريسة الأسد فعاد إلى البكاءِ والنوح حتى انفطر قلب أبي سفيان لهُ وأشفق عليهِ فأخذ يعزيهِ ويخفف أحزانهُ وهو لا يزداد إلَّا بكاءً.
فقال أبو سفيان: «ما يجدينا البكاء يا أخا العرب إننا لا نستطيع رد الضائع ووالله لو كان ابنك أسيرًا في إيوان كسرى أو قصر قيصر لبذلنا أنفسنا في سبيل إنقاذه لأَن لك علينا حق الجوار وزد على ذلك أنك رجل قد وقعت من نفسي موقعًا عظيمًا فسررت بلقائك وها أنني بين يديك فافعل ما تراه فإني أطوع لك من بنانك.»
فسكت عبد الله ولم يجب ولبث برهة غارقًا في بحار الهواجس يراجع في ذهنهِ تاريخ حياتهِ وما جاءَ من أجلهِ إلى بصرى وما كان من أمر النذر ثم رجع إلى صوابهِ وتجلد تجلد الرجال المدرَّبين فعلم أن البكاءَ لا يجد بهِ نفعًا فرأَى من الحزم أن يتدبر الأمر بالصبر والتروي فلاح لهُ أن يسير إلى عمان يفتش فيها عن حماد فلعلَّ أَحدًا ينبئهُ بحالهِ ونظر إلى الشمس وقد قاربت الزوال وبينهم وبين الطريق بضعة أميال ورأَى أبا سفيان ورجالهُ واقفين في خدمتهِ ينتظرون أمرًا يطيعونهُ فيهِ فخاف أن يسبب لهم البقاءِ هناك أذية فقال لأبى سفيان: «إني يا أخا قريش شاكر لحسن صنيعك وأخشى أن أكون سببًا لضرر ينالك على يدي ونحن في هذه الصحراء التي شربت دم ولدي فسيروا إلى مقصدكم بحراسة الله ودعوني أسير في طريقي.»
فأجابهُ أبو سفيان قائلًا: «دع عنك الهواجس واعلم أننا لا نبرح هذا المكان إلا وأنت في مقدمتنا فلسنا بتاركيك وحدك فإذا رافقتنا فإننا في خدمتك حتى تصل مأمنك وإذا شئت المسير معنا إلى مكة فإنك تنزل في بيتنا على الرحب والسعة فاختر لنفسك.»
فهمَّ عبد الله بأبي سفيان وضمهُ وبكى لما آنسه من تعزيتهِ وقال: «لقد وفيتم الكيل وأجزلتم الجميل أما المسير معكم فغير مستطاع ولا بد لي من النظر في الأمر فإما أن أسير إلى عمان أو أعود إلى منزلي بقرب بصرى حتى يحكم الله بما يشاء.»
قال: «إننا إذن في ركابك إلى عمان ثم إلى حيث تشاء.» قال ذلك وأمسك بيده وسار بهِ فمشى عبد الله وسيف حماد بيده يتنسم منه رائحتهُ وعادوا جميعًا إلى القافلة.
وكان عبد الله في أثناء عودتهِ صامتًا يفكر في حالهِ ويتردد بين أن يسير إلى عمان وهو لا يدري ما يلقى هناك بعد ما داخلهُ من الريب في أمر حماد وهو يرجح موتهُ على أنهُ لما نظر في الأمر طويلًا وراجع ما مرَّ بهِ من أهوال ذلك اليوم اعترضهُ أمل رأى من خلالهِ بصيصًا هيأَ لهُ حمادًا حيًا وذلك أنهُ فكر في أمر ما عثر عليهِ من بقاياه فلم يجد دليلًا قاطعًا بموتهِ وهو لم يعثر بشيء من جثتهِ فقال في نفسهِ (لو أكلتهُ السباع لبقيت منهُ بقية مثل بقية ذلك الجواد من جمجمة أو عظام أخرى أو قطع من ثوبهِ ممزقة) ثم فكر في ما وجده من السلاح فإذا بهِ لم يره في الموضع الذي رأَى فيهِ بقايا الجواد فقضى مدة يتردد بين اليأس والرجاء حتى وصلوا القافلة.
فقال أبو سفيان: «ما ترى يا أخا لخم هل تسير معنا إلى الحجاز أو تزمع إلى مكان نوصلك إليه في أنحاء الشام أَم تريد أمرًا نقضيهِ لك.»
فقال عبد الله: «إني والله لا أدري ماذا أقول ولا أَعلم ماذا أَعمل فأرى أن تتركوني في هذا المكان أفكر في أمري حتى ألهم أمرًا أعملهُ فإني لا أفقهُ من أمري شيئًا.»
فقال أبو سفيان: «لسنا تاركيك وأنت في هذه الحال.»
فقال عبد الله: «لقد غمرتوني بفضلكم وأنسيتموني حزني بتعزيتكم أَما وقد أصررتم على ذلك فإني أَود الذهاب إلى عمان لعلي أستطلع خبرًا جديدًا.»
وكانت الشمس قد آذنت بالزوال فباتوا ليلتهم هناك وأصبحوا باكرًا يريدون عمان فدنوا منها والشمس قد دنت من مغيبها فقال عبد الله: «أستودعكم الله فإني معرج إلى عمان أنتظر ما يأتي بهِ القضاء.»