فتاة غسَّان
وكان لجبلة هذا ابنة بارعة في الجمال مع تعقل ورزانة اسمها هند ربيت منذ حداثتها على ظهور الخيل فشبت مولعة بركوبها ومجاراة أعاظم الفرسان في حلبة السباق حتى طار صيتها في القبائل حديث القوم ومضرب أمثالهم قبل أن بلغت العشرين من عمرها.
وكانت تقيم غالبًا في صرح الغدير وهو قصر بديع شاهق بناه ثعلبة بن عمرو أَحد ملوك غسَّان في القرن الرابع للميلاد في أطراف حوران مما يلي البلقاء من حجارة ضخمة فيهِ غرف واسعة تحدق بها الحدائق والبساتين تجرى من تحتها الجداول والسواقي معظم أيام السنة.
وكان بجوار القصر سهل واسع الأرجاء خصصوه لسباق الخيل في مواقيت معينة من العام ينخرط في سلكهِ أمهر فرسان البلقاء وحوران وقد يقصده أهل البلاد الأخرى وكانت هند تنزل السباق بنفسها وكثيرًا ما أحرزت قصب السبق. وكان ذلك السباق تحت رعاية والدها جبلة فيخلع على السابقين خلعًا يعينها قبل الشروع في السباق فمن نال قصب السبق احتفلوا بإلباسهِ الخلعة في مساء يوم السباق احتفالًا يحضره الشعراء ينظمون القصائد في مدح السابق ثم تحمل هند الخلعة بيدها وتلبسها للسابق فإذا جاءَ يوم السباق تقاطر الفرسان من أنحاء الشام وحوران والبلقاء وغيرها يتسابقون إلى إحراز تلك الجائزة.
ففي سنة ٦٢٩م (سنة ٧ للهجرة) بثَّ جبلة المنادين ينبئون الناس بسباق ذلك الفصل وهو فصل الربيع وعين لهُ الجائزة درعًا سليمانية كاملة وأمر بإعداد حاجيات الاحتفال بجوار صرح الغدير حتى إذا دنا اليوم المعين تقاطر الفرسان إلى تلك الساحة زرافات ووحدانًا بخيولهم وسياسهم وفيهم جماعة كبيرة من الأمراءِ الغسَّانيين وغيرهم بعضهم بالعمامة وبعضهم بالكوفية والعقال وبعضهم بالقلانس تشبهًا بالروم.
ففي صباح يوم الموعد كانت الخيول مصفوفة بجانب السهل صفوفًا غير منتظمة والخيام منصوبة ليأوي إليها الفرسان أثناءَ السباق في صدرها خيمة جبلة وهي فسطاط كبير مبطن بالحرير الأحمر أرضهُ مكسوة بالبسط والسجاد وقد علقت تلك الدرع في بعض أعمدتهِ ليراها الفرسان ويشتاقوا إلى إحرازها.
فلما أشرقت الغزالة وأعدت الخيول شاعت أعين الفرسان نحو القصر في انتظار هند وأبيها فإذا بالأبواب قد فتحت وخرج جبلة وكان قد جاءَ من مساءِ الأمس وبات في القصر استعدادًا لحضور السباق فلما أنبئَ الناس بخروجه تأدبوا في موقفهم فمرَّ بالحديقة ثم فتحت أبوابها فخرج جبلة وحاشيتهُ وعلى رأسهِ تاج مرصع تنعكس أشعة الشمس عن جواهره فتبهر الأبصار وكان طويل القامة أصهب (أي يخالط بياض وجههِ حمرة) ذو سبال وعثنون عليهِ أزار من الديباج المزركش يغطى أثوابهُ ويديهِ ويجره وراءَه. فمشى والخدم تقود أفراسهُ وراءَه معقودة أذنابها وعليها القلائد من الذهب والفضة حتى جاءَ فسطاطهُ فجلس في صدره على سرير من خشب العرعر محلى بالذهب وساقوا خيلهُ إلى مرابطها في خيمة خاصة بها ووقف في باب الفسطاط الحاجب وراءَه جماعة من الحاشية بعضهم يحمل سيف جبلة وآخر يحمل قوسه ولم يكد يستوي على سريره حتى استأذن الشعراء بالدخول عليهِ فأذن لبعضهم فدخلوا وألقوا التحية وتربعوا على البساط في أرض الفسطاط فلما رآهم جبلة تذكر حسَّانَ بن ثابت وكان يختلف إليه كثيرًا ويمتدحه فيصلهُ بالهبات الوافرة ولكن حسانا لما اعتنق الإسلام أقام في المدينة وانقطع عن الغساسنة وغيرهم.
وبعد هنيهة خرجت هند بنت جبلة من قصرها تحف بها جواريها وقد يعرف الناس خروجها برائحة طيبها قبل أن يروها فمرَّت بحديقة القصر حتى خرجت من بابها وأعين الفرسان شائعة نحوها وأكثرهم إنما يأتي السباق ليتمتع بنظرة منها. فمشت من باب الحديقة مشية تدل على صحة ورزانة وكانت ممشوقة القوام ممتلئة الجسم مستديرة الوجه قمحية اللون مشربة بالحمرة سوداء العينين مع كحل طبيعي لا يكاد يصدق الناظر إليها إلا أنها مكحلة بالأثمد وكان شعرها أسود مضفورًا قد أرسلت ضفائره خصلة واحدة على ظهرها وفى أطراف الضفائر قطع من النقود الذهبية أو الحلي وفى أذنيها قرطان في كل منهما لؤلؤة كبيرة وجعلت على رأسها تاجًا صغيرًا مرصعا وضعتهُ مائلًا نحو اليمين وفى عنقها عقد من المرجان وفى أحد معصميها دملج من الذهب عريض مرصع بالياقوت وفى أصابعها الخواتم من العقيق والزمرد وقد أرخت من كتفها رداءً حريريًا مخططًا بألوان بديعة يغطيها إلى الرسغ فلا يظهر من أثوابها إلا أسفل الحذاء. فتخلف بعض جواريها في الحديقة ورافقتها اثنتان منهنَّ إلى الفسطاط وعيون الناس شاخصة إليها عن بعد وهي تنظر إليهم بطرف عينها حياء ورفعة حتى دخلت الفسطاط فرحب بها والدها وأجلسها إلى جانبهِ وكان كثير الولع بها حتى تسلطت على عقلهِ ورأيهِ وكثيرًا ما كان يستشيرها في أموره ثم وقف الأتباع والخدم خارج الفسطاط ومعهم خادمتاها وكان مقعد جبلة وهند هناك بحيث يشرفان على ساحة السباق ويريان المتسابقين في أوَّل الشوط.
ثم سمعوا جلبة وقيل أن ثعلبة بن الحارث بن أبى شمر صاحب بصرى قد جاءَ بحاشيتهِ فلما سمعت هند بقدومهِ غلب عليها الانقباض حتى كاد يظهر على وجهها. أما جبلة فنهض عن سريره إلى باب الفسطاط لاستقبال ثعلبة وكان ثعلبة شابًا قَصير القامة خفيف العضل نحيف الوجه كبير العينين والأذنين ليس عليهِ من مهابة الملوك إلا ملابسهُ الفاخرة فقد كان لابسًا طيلسانًا من الحرير مزركشًا يجر وراءَه على عادة الرُّومان وسيفهُ أعقف مرصع يتدلى من حمائلهِ إلى يساره وقد أوقف طرفي شاربيهِ أنفة وكبرًا واعتدادًا بمنصب والده.
وكان الغسَّانيون يتحدثون بهند وثعلبة ويزعمون أنهما لا بدَّ من تزوجهما نظرًا لما بينهما من النسبة والنسب ولكن ذلك لم يخرج إلى حيز الوجود ولا تخاطب الوالدان بشأنهِ على أن ثعلبة كان كثير الاعتداد بنفسهِ وربما حدثتهُ خيلاؤُه أن يترفع عن هند لو خوطب بشأنها. أما هي فكانت خالية الذهن من أمر الزواج ولكنها كانت تستنكف من أخلاق ابن عمها ولا تميل إليه ولولا رابطة القرابة ما خاطبتهُ ولا جالستهُ مطلقًا.
فلما وصل ثعلبة استقبلهُ جبلة وعانقهُ ورحب بهِ وأدخلهُ الفسطاط وأجلسهُ على سرير بجانب سريره وأخذ يسألهُ عن والده وسبب تخلفهِ عن ذلك السباق فاعتذر عنهُ أنهُ في شاغل خصوصي حال بينهُ وبين ما يريد وكان جبلة إنما يكرم ثعلبة إكرامًا لمنزلة والده ومراعاة لآداب الملوك فيما بينهم.
أما هند فسلمت على ثعلبة سلامًا اعتياديًا وجلست تتشاغل بالتفرج بمنظر ذلك السهل الواسع وما يتراءَى وراءه من الجبال وتتظاهر أنها مهتمة بمنظر الخيول المتزاحمة هناك.
أما ثعلبة فكان يخاطب عمهُ وعيناه على هند لا لحبهِ لها بل رغبة في إعجابها بهِ وهي كلما التمس إعجابها زادتهُ ازدراء فلما أتم حديثهُ مع عمهِ تحوَّل نحوها فسأَلها عن عزمها هذه المرة على النزول في ساحة السباق فأجابت وهي تنظر إلى الميدان أنها لا تنوى النزول الآن ولكنها ربما نزلت إذا رأت ما يشوق إلى ذلك.
فلما اقترب الضحى خرج بعض أمراء جبلة وأخذوا يهيئون معدات السباق ويرتبوها فنصبوا حبلًا يقف الفرسان عنده إذا عزموا على السباق فيكونون صفا واحدًا على استواء واحد ثم تناول أحدهم قصبة طويلة أعدت لذلك اليوم وسار بها إلى آخر الساحة فنصبها هناك فمن سبق اقتلعها وأخذها ليعلم الحاضرون أنهُ السابق من غير نزاع فيقال لمن اقتلع تلك القصبة أنهُ أحرز قصب السبق.