حمَّاد وسلمان
تركنا حمادًا وسلمان وقد خرجا من الدير وسلمان يفضل العدول عن ذلك الطريق لما خافهُ من مسبعة الزرقاء وحماد يحبب إليهِ المسير فيهِ خوفًا من طول المسافة إذا عدلا عنهُ.
فلما رأَى سلمان إصرار حماد أطاعه وسارا في أقرب الطرق ولكنهُ ما لبث خائفًا غائلة ذلك السبيل فعوَّل على الاحتراس وإتخاذ وسائل الوقاية فأوعز إلى حماد فلبس درعه تحت أثوابهِ وسارا حتى أمسيا بالقرب من غدير نزلا على ضفتهِ فما لبثا أن تناولا شيئًا من الزاد حتى تعاظمت هواجس سلمان وكأَن نفسهُ حدثتهُ بخطر قريب فهمَّ يتجسس المكان قبل اشتداد الظلام. وكان حماد قد نزع عباءتهُ وسلاحهُ وجعلهما إلى جانبهِ على ضفة الغدير فلما نهض سلمان نهض حماد معهُ وقادا فرسيهما وراءَهما وصعد إلى أكمة أطلَّا منها على السهل المحدق بهما وجعلا ينظران إلى ما حولهما من السهول وفيها بعض الآكام تتراءَى كأَنها جماعات من الناس أو أسراب من الوحوش فهالهما ذلك المنظر ثم سمعا زئيرًا عن بعد فأجفل الجوادان وأخذا يفحصان الأرض بحوافرهما.
فقال سلمان: «ها قد أحدق الخطر بنا وهذا ما كنت أتخوفهُ يا سيدي فهلمَّ بنا إلى النجاة.» فقال حماد: «وماذا ينجينا؟» فإلتفت سلمان فرأَى شجرة فقال: «عليك بهذه الشجرة نتسلق أغصانها فإن الأسد لا يقوى على الوثوب إليها.» فأسرعا وقد نسي حماد سلاحه وعباءَتهُ فشدا الجوادين إليها وتسلقا أغصانها والجوادان لا ينفكان عن الصهيل.
ثم سمعا صوت الزئير يدنو منهما فتمسكا بالأغصان وهما يحاذران أن يراهما الأسد مع علمهما بامتناعهما عليهِ ثم ما لبثا أن رأياه واثبًا عن أكمة بالقرب منهما أما الجوادان فإنهما أجفلا وصهلا صهيلًا طويلًا ونفرا يريدان الفرار فانقطع زمام فرس حماد فطلب عرض الصحراء وأما فرس سلمان فلم يستطع التخلص قبل أن ظفر بهِ الأسد فقبض على صدره بمخالبهِ فوقع الفرس إلى الأرض فهمَّ بهِ الأسد فمزَّق عنقهُ بأنيابهِ فسال دمهُ فأخذ ينهش في لحمهِ.
ثم وقف الأسد ونظر إلى ما حولهُ فرأَى عباءَة سلمان فهمَّ بها كأَنهُ ظنها رجلًا فمزقها بين أنيابهِ ومخالبهِ أي ممزق وأخذ يتمايل بمشيتهِ المعهودة حول الشجرة وقد تنسم رائحة الرجلين في أعلاها مع عجزه عن إدراكهما فجعل يحك جلده بجذعها ويزأر أي زئير حتى مالت الشجرة بهما وخافا السقوط فتماسكا بالأغصان وتثبتا في مكانيهما وقلباهما يخفقان خوفًا وحذرًا والأسد لا ينفك عن الزئير والمسير ذهابًا وإيابًا وعيناه تتلألآن في الظلام كأَنهما سراجان منيران والفرس يخور خوار الثور حتى ملَّ الأسد فزأَر زأرة دوى لها ذلك السهل الواسع ورددت صداها تلك الآكام وأرسل ذنبهُ فوق ظهره وعاد من حيث أتى فلبثا يراعيانهِ في مسيره وهو يخطر الهوينا متبخترًا تهيًا وعجبًا حتى واراه الظلام عنهما ولكنهما ما زالا يسمعان زئيره عن بعد وهما صامتان لا ينبسان ببنت شفة فلما تحققا النجاة منهُ وهما لا يصدقان أنهما نجوَا قال سلمان: «أَرأَيت يا سيدي ما كنت أخافهُ فشكرًا لله الذي أنبت هذه الشجرة في هذه الصحراء لتكون سببًا لنجاتنا من الموت بين مخالب الأسد.»
فتحقق حماد عظم الخطر الذي نجوَا منهُ ولكنهُ أسف لذهاب فرسهِ. فقضيا معظم الليل مستترين في تلك الشجرة يخافان الانحدار منها حتى انبلج الصبح فنزلا ونظرا إلى فرس سلمان فإذا هو مضرج بدمائهِ ولا حياة فيهِ فقال سلمان: «هلمَّ بنا نطلب عمان على أقدامنا وقد كان في طاقتنا أن نذهب إليها راكبين ولكن هذه إرادة المولى فنشكره لنجاتنا من مخالب الأسد وما خسرناهُ إنما هو متاع يسهل التعويض منهُ.»
فقال حماد: «إن الفرس عزيز عندي كما تعلم فهل تظننا نظفر بهِ بعد.»
فقال: «دعنا والأفراس فإن منها شيئًا كثيرًا حيثما حللنا فسر بنا حالًا لنقطع هذه المسبعة قبل أن يدركنا الظلام.»
فقال: «ولكنني أعزل وقد تركت السيف والرمح والعباءَة على الغدير فعد بنا للبحث عنها.»
فقال: «لا أراني قادرًا على تعيين المكان الذي كنا فيهِ لأن الطرق تشابهت عليَّ وأخشى إذا أطلنا البحث أن تفوتنا الفرصة للنجاة وقد نجونا من الأسد مرتين فلا نأمن أن ننجو منهُ في المرة الثالثة ونحن على أقدامنا فهلم بنا.»
فأطاعهُ حماد وسارا إلى عمان فوصلاها وأقاما فيها بقية الشهر المعين فلم يأت عبد الله فقضيا أسبوعًا آخر وهما على أحرّ من الجمر فلم يأت أحد فابتاعا جوادين آخرين عادا عليهما نحو بصرى عن طريق غير التي جاءَا بها خوفًا من غائلة الأسود وهما في هاجس على عبد الله وغيابهِ وأخذا يدبران وسيلة يدخلان بها المدينة أو ما جاورها ولا يعلم بهما ثعلبة أو أحد من رجالهِ.
أما حماد فكان بين هاجسين عظيمين هند من جهة وعبد الله من جهة أخرى ولكنهُ شكر الله لبقاء الدرع لأنها تذكار ثمين عنده.
فلندعهما في حيرتهما ولنذهب بالقارئَ إلى بصرى وما كان من أمر ثعلبة بعد أن تمَّ لهُ القبض على عبد الله وإرسالهِ مخفورًا إلى بيت المقدس كما قد رأَيت.