هند وأُمها
أما هند فقد تركناها ليلة الدير عائدة إلى القصر وقد تمكنت من حبّ حماد والإعجاب بشهامتهِ إلى درجة لم تعد تراعي معها حقوق الوالدية وخصوصًا بعد ما عاينتهُ من غيرة ثعلبة وغدره ولكنها وصلت القصر وقلبها لا يزال مشيعًا حمادًا في عودتهِ وهي تدبر حيلة تتخلص بها من لوم والدتها على غيابها فلما دخلت القصر رأت والدتها في قلق لغيابها فبادأَتها بالعتب على تأخير الخادمة بالأساور فقالت الوالدة: «إننا استحسنَّا الأساور وأعدنا الخادمة بها لتعجيل حضورك.» فأدَّعت هند أنها انتظرت رجوعها حتى حلك الظلام فلما أبطأت استصحبت بعض خدمة الدير حتى أوصلها إلى ذلك المكان فاستغربت والدتها ذلك الإتفاق وجعلت تعتذر لها عما حمَّلتها من المشقة وقالت: «لعل الخادمة سارت إليك من طريق غير الذي جئت بهِ ولا تلبث أن تعود.»
فتظاهرت هند بالتعب وسارت إلى غرفتها وهي غارقة في بحار الهواجس وقلبها واجس على حماد من غدر ثعلبة لما تعلمهُ من لؤْمهِ وخيانتهِ.
فقضت تلك الليلة بمثل هذه الهواجس لم يغمض لها جفن إلى قبيل الصباح فنامت قليلًا فلما أصبحت جعلت تتنسم الأخبار ممن يذهب من خدمة صرح الغدير إلى بصرى لابتياع حاجيات القصر.
فما لبثت أن علمت بالقبض على عبد الله وفرار حماد فشكرت الله على نجاتهِ ولكنها ظلت في خوف عليهِ وهي لا تستطيع سبيلًا إلى الوقوف على خبره فقضت بضعة أيام منقبضة النفس لا يلذ لها طعام ولا يهنأ لها عيش حتى ظهر أَثر ذلك على وجهها ووالدتها تبالغ في تسليتها وتستغرب ما ألمَّ بها وهند تعتذر بإنحراف صحتها على أثر التعب من ليلة الدير.
فجعلت تصطحبها في أَثناءِ النهار إلى ضواحي القصر تقضيان الساعات معًا في البساتين على ضفاف الغدير وهند لا تزداد إلَّا انقباضًا وضعفًا حتى إمتقع لونها وقلَّ طعامها فارتابت والدتها في أمرها وازدادت حنوَّا لها وميلًا لاستطلاع حقيقة حالها فلم تجد إلى ذلك سبيلًا. وقد قدمنا أن سعدى كانت من الذكاءِ والفطنة على جانب عظيم فأَساءت في ابنتها ظنًّا وخيل لها أن لذلك التغيير سببًا مهمًّا فعولت على إغتنام الفرص لكشف ذلك السبب فلما خاطبها زوجها بأَمر ثعلبة ورغبتهِ في هند إتخذت ذلك الأمر وسيلة لاستطلاع ما في ضميرها فدعتها ذات يوم للخروج معًا إلى الغدير على حدة فأَمرت بعض الخدم فأَعدوا لهما وسائل الراحة فخرجتا حتى أتتا ضفة الغدير وكان الجو صافيًا والنسيم عليلًا والماءُ يجرى أمامهما وكانت هند بلباس البيت وقد ضفرت شعرها ضفيرة واحدة أرسلتها على ظهرها وشدت عصابة حول رأسها كمن يشكو الصداع فقضت مسافة الطريق من القصر إلى المكان المقصود تسير الهوينا صامة تجر ذيل ردائها وراءَها وتتشاغل تارة في رفعهِ عن الأرض لئلاَّ يعلق ببعض الأشواك النابتة في ذلك البستان وطورًا تلهو بالتأَمل في ما يتطاير عن أشجاره من الطيور فلما وصلت المكان إتكأَت على وسادة من الحرير المزركش صنع دمشق فوق بساط ثمين تحت شجرة ظللتهما ساعة العصر وكانت والدتها قد جمعت بعض الأزهار في ضمة واحدة جاءَت بها إليها فتناولتها هند وهي لا تتكلم فهمَّت بممازحتها فقالت: «إليك هذه الأزهار فإن لتقديمها معنى هل تفهمينهُ.»
فتناولت هند الأزهار وهي لا تفهم المراد.
فقالت لها والدتها: «ما بالك لا تجيبينني على سؤالي.»
قالت: «إسأليني فأجيبك.»
قالت: «قد سألتك فأجبتِ.»
قالت: «لم تسأليني ولا أجبتك.»
قالت: «بلى قد أجبت.»
قالت: «كيف ذلك وأنا لم أَفه بكلمة.»
قالت: «أن تناولك هذه الأزهار من يدي جواب على سؤالي.»
قالت: «لم أفهم مرادك يا أُماه فأفصحي.»
قالت: «أضمرت في باطن سرّي وأنا أُقدم هذه الأزهار إليك أنك إذا قبلتها من يدي كان أَخذها جوابًا على ما في نفسي.»
قالت: «ما لي أراكِ تخاطبينني بالرموز فإني لم أقل شيئًا.»
قالت: «ما لنا ولهذا فإني أسأَلك سؤَلًا آخر فهل تصدقينني فيهِ.»
قالت: «قولي فإني طوع أمرك.»
قالت: «أتحبين ابن عمك ثعلبة.»
فلما سمعت اسمهُ بغتت وعلا وجهها الاحمرار ثم عقبهُ الاصفرار بغتةً وظهر الانقباض عليهِ ولم تجب.
فقالت والدتها: «قد وعدتِ بالجواب ولا أراك تجيبين.»
قالت: «لأني لم أرَ مسوغًا لهذا السؤَال ولم أفهم مرادك منهُ وأنت تعلمين منزلة هذا الشاب عندي.»
قالت: «ما لنا وللمزاح فإني أسألك سؤالًا صريحًا فأرجو الجواب عليهِ صريحًا فهل تحبين ثعلبة.» فتجلدت هند وتجاهلت قائلة: «أليس هو ابن عمي فأُحبهُ محبة الأعمام وإن يكن لا يستحق هذه المحبة.»
قالت: «ولكنني أسألك هل تحبينهُ محبة غير هذه.» فأدركت هند مغمز كلام والدتها فنفرت ولم تجب.
فاقتربت سعدى منها حتى احتك جنباهما وقالت: «ما بالك لا تجبينني فإن والدك كلفني بالسؤَال عن ذلك فماذا أجيبهُ.»
فسكتت هند ولبثت برهة تفكر في مراد أمها فتوسمت من وراءِ هذا الكلام شيئًا قرأَتهُ على ملامح وجهها ولكنها تجاهلت وأظهرت عدم الإكتراث فظلت متكئة تنظر إلى والدتها شذرًا كأَنها تقول لها كفي المزاح في هذا الموضوع.
فكرَّرت والدتها السؤَال بهذا المعنى فاعتدلت هند في مجلسها ونظرت إلى والدتها والاستغراب ظاهر على وجهها وقالت: «أفصحي يا أماه فإن لسؤَالك معنى انقبضت لهُ نفسي فما تعنين بحبي لهذا النذل السافل غير الحب الذي أوجدتهُ القرابة رغمًا عني.»
ففهمت والدتها ما في قلب هند من الحقد على ثعلبة وكانت قد لاحظت منها ذلك قبلًا فأرادت المبالغة في التجاهل حتى تستطلع أفكارها فقالت: «لا تسارعي إلى الطعن في ابن عمك فإنهُ سيكون أَقرب إليك من ذلك.»
فنفرت هند حتى وقعت الأزهار من يدها ونظرت إلى والدتها نظرة العتب وقالت لها: «أرجو أن لا أسمع منك يا أُماه ما يكدر عواطفي فإني لا أَرى مسوغًا لتكديري بهذه الألغاز فليس لثعلبة وطر عندي ولا هو ممن يطمع بقرابة فوق هذه فوحبك لو استطعت التبرؤَ منهُ لفعلت وأنت أعلم الناس بمنزلتهِ عندي وأظنك أقدر مني على الجواب عن هذا السؤَال أم أَنت تمازحيني.»
قالت: «بل أقول الجد فإن عمك الحارث خاطب والدك بشأنك فماذا نجيبهُ.»
فإلتفتت هند إلى والدتها باستخفاف كأَنها تقول لا أصدق ما تقولين.
فأجابتها بملامح عينيها وابتسامها أنها تريد الجد وقالت: «لا بل أسأَلك سؤَلًا صريحًا هل تحبين ثعلبة.»
فنهضت هند عند ذلك وتظاهرت بجمع الأزهار التي كانت قد وقعت من يدها وازداد وجهها امتقاعًا وظنت سكوتها جوابًا كافيًا وظنُها في محلهِ ولكن سعدى كانت تبالغ في التجاهل لعل الحديث يجرها إلى معرفة سبب انقباض ابنتها بعد ليلة الدير فقالت لها: «ما بالى أخاطبك فتتشاغلين عن جوابي أَلعل خطابي لا يستحق الجواب عندك.»
فترامت هند على صدر والدتها بدالة الوالدية وقبلت يدها وقد خجلت لهذا التوبيخ وقالت: «حاشاي أن أفعل ذلك يا أماه ولكنني أعجب لسؤَالك وإصرارك على طلب الجواب وأنتِ تعلمين أني أريد التبرئَ من القرابة القديمة فهل أجرُّ علي عيبًا آخر فليس لثعلبة وطر عندي.»
فقالت: «أَظنكِ شغلت عنهُ بغيره.» قالت ذلك وتظاهرت بالمزاح ولكنها آنست في وجه هند تغيرًا سريعًا فعلاه الاحمرار بغتة وسكتت.
فقالت سعدى: «ما بالك لا تجيبينني وأرى وجهك يتكلم وعيناك تعترفان فما بال لسانك لا ينطق.»
فتذكرت هند حبيبها واشتغالها بهِ عن كل شيء وتصوَّرت ما أَتاه ثعلبة من الأذى لهُ فاشتد بها الأمر حتى ترقرقت الدموع في عينيها فحوَّلت وجهها عن والدتها إخفاءً لما كاد يظهر من عواطفها وتشاغلت بمراقبة غزالٍ نافرٍ رأَتهُ يثب على التلال عن بعد وظلت صامتة ويكاد الدمع يتناثر من عينيها.
فازدادت والدتها إرتيابًا في شأنها فقالت في نفسها (هذه هي الفرصة المناسبة لكشف المخبأ) فقالت لها: «ما بالك تحولين وجهك عني يا هند ألعلك تخفين شيئًا.»
فظلت هند متلفتة وتمنت أن تكون في خلوة لتطلق لدموعها العنان.
فأَمسكتها والدتها بيدها وحاولت تحويل وجهها نحوها فأفلتت هند وغطت وجهها بكمها لئلاَّ يظهر بكاؤُها فتحققت سعدى أن هندًا تبكى فكاد قلبها ينفطر عليها فقالت: «ما بالك يا هند ما الذي يبكيك أَلعلي أصبت ظني وهل أنت تخفين شيئًا عني.»
فأوغلت هند في البكاءِ وهي تحاذر أن تسمع والدتها شهيقها حتى بلَّلت كمها ولم تستطع التسلط على عواطفها فتحققت سعدى أن هندًا قد وقعت في الشراك وأن قلبها في شاغل ولكنها لم تفقه لحقيقة الحال فحاولت استطلاع السرّ فقالت: «إذن أنت في شاغل عن ثعلبة.»
فظلت هند صامتة خجلًا وقد سترت وجهها بكمها بين يديها.
فسكتت سعدى وأخذت تفكر في من عسى أن يكون ذلك الشاغل وخافت أن تلح على ابنتها بالسؤَال فتزيدها خجلًا فلا تعترف لها بالواقع.
فمضت بضع دقائق وهما صامتتان وأخيرًا تظاهرت سعدى بالجد ونادت هند قائلة: «أَما وقد ظهر منك ما ظهر فلم يعد ثمَّ داع إلى الإخفاءِ فقد تحقق لديَّ أنك في شاغل ذي بال فأفصحي يا ابنتي وقولي ما في ضميرك فإني والدتك وأنت تعلمين حبي لك فإجعليني مكان سرّك وإتخذيني صديقة لا والدة وأطلعيني على مكنونات قلبك فنحن الآن في خلوة لا يرانا أحد وقد قضيتُ أيامًا أفكر في ما غيَّرك وقبض نفسك وأنت تخفين عنى حقيقة حالك. أما ابن عمك ثعلبة فإنهُ لن ينال منك شعرة وأنا أَعلم الناس بهِ وهبي أن والدك رضي بهِ فأنا لا أرضاه لك.»
ثم همَّت بها وضمتها إلى صدرها وقبلتها وهند تبالغ في تغطية وجهها حياءً فقالت لها سعدى: «أفصحي يا ابنتي وأخبرينى فقد نفد صبري قولي ما في نفسك فإني معينة لك على مرادك.»
فلما سمعت هند كلام والدتها رفعت رأسها من بين يديها فنظرت إلى والدتها بعينين قد أذبلتهما الدموع وغيرهما الهيام وحاولت الكلام فمنعها الحياء فأعادت وجهها إلى ما بين يديها وألقت نفسها على صدر والدتها وقد أخذ الهيام منها مأَخذًا عظيمًا.
فرفعت سعدى رأس هند بين ذراعيها وقالت: «قولي يا ولداه لا تخافي فإننا في خلوة لا يرانا أحد هل تحبين أحدًا.»
فتنهدت هند تنهدًا عميقًا ولم تجب فإتخذت والدتها التنهد جوابًا شافيًا فقالت: «ومن ذا الذي تمكن حبهُ منك حتى تسلط على قلبك ونحن نحسبك أثبت جأشًا من الرجال وما عهدي بك مسترسلة لعواطفك إلى هذا الحد.»
فأطرقت هند وقالت: «لا بأس بي ولا أنا أحب أحدًا ولكنني أحب التخلص من هذا العالم فإني تعيسة قد كتب عليَّ العذاب من يوم ولدت.» قالت ذلك وعادت إلى البكاء.
فانصدع قلب والدتها لذلك وجعلت تقبلها وتضمها إلى صدرها وتقول: «ما هذا الكلام يا هند أَلعلك يئسة ممن تحبين.»
فنبذت هند الحياءَ عند ذلك وقالت: «نعم يا أماه إني يئسة فإبكي على ابنتك واندبيها فإنها تعيسة شقية.» فتحققت سعدى ظنها فأرادت معرفة الباقي.
فقالت: «وما سبب تعاستك وأنت فتاة غسَّان وزهرة هذه البلاد والناس يتحدثون بتعقلك ويحسدك أترابك على مقامك.»
فقالت: «على أي شيءٍ يحسدونني
فازدادت سعدى تحرقًا وتساقط الدمع من عينيها وهي تحاول التجلد خوفًا على هند وقد أدركت أنها عالقة بحب رجل لا سبيل لها إليه فقالت لها: «لا تذكري التعاسة وأنتِ الآمرة الناهية ولا تخشي بأسًا وأنا الآخذة بيدك العاملة على رضاك فأفصحي عن ضميرك فقد كفانا بكاءً واعلمي أن ثعلبة سيرتد خائبًا ولو كان مستهلكًا في هواك.»
فحرَّقت هند أسنانها عند ذكر ثعلبة وقالت: «إن الشر كلهُ من هذا الخائن وهو وحده سبب هذا الشقاء وهل تظنين رغبتهُ في خطبتي من عظم حبهِ لي.»
قالت: «وكيف إذن؟»
قالت: «إنهُ فعل ذلك إنتقامًا من ذلك الشهم الذي أبقى على حياتهِ كرمًا وأنفة.»
فتذكرت سعدى حكاية السباق وما كان من شهامة حماد وأحست كأن غشاوة انقشعت عن عينيها فأيقنت أن الفتاة مغرمة بحماد فبغتت ولم تبد جوابًا لعلمها أن الرجل غريب في تلك الديار وكانت قد سمعت بفراره والقبض على والده بتهمة الجاسوسية فوقعت في حيرة على أنها لم تنفر من ذكر هذا الشاب في عرض الحديث بل كانت ترتاح إلى ذكره والتحدث عنهُ لما ظهر لها من شهامتهِ وكرم أخلاقهِ ولكنها استغربت وقوع هند في هواه مع أنفتها وعلمها بغموض حسبهِ وعدم سنوح الفرصة لها للاجتماع بهِ وحسبت وقوع ذلك من قبيل التقادير الإلهية.
فنظرت هند إليها لتستطلع ما يظهر منها بعد هذا التلميح فلما رأتها صامتة قالت: «أَلم أَقل لك أني تعيسة فها أن مجرد الإشارة إلى سبب بلائي أضاع حنوَّك وألقاك في حيرة.»
فقالت: «كلاَّ يا ولدي فقد وعدتك بالإنتصار لك ولا أزال على الوعد ولكن الخبر جاءَني على حين غفلة فبغتُّ لهُ فهل أنت تحبين ذلك الشاب إنهُ بالحقيقة شهمٌ كريم النفس وأنت تعلمين منزلتهُ عندي من يوم السباق.»
فسكتت هند وكان سكوتها جوابًا صريحًا.
فعادت سعدى إلى استغرابها واستعظمت زفاف ابنتها إلى رجل لا يعرف لهُ حسب ولا نسب فضلًا عن إتهامهِ بالجاسوسية والقبض على والده وغضب الحارث وثعلبة عليهِ فلاح لها أن بقاء هند على عزمها سيكون سببًا لنفور بين زوجها وابن عمهِ ولكنها لم تستطع مكاشفة هند بذلك خوفًا عليها من سلطان الغرام بعد ما عاينت من شغفها وشدة تعلقها بحماد فعمدت إلى الملاينة فسايرتها في مجرى عواطفها ريثما ترى ما يكون من أمر ثعلبة وقبضهِ على حماد فقالت لابنتها: «أن حمادًا أهل لحبك ولكن كيف بلغت هذه الدرجة من الحب والرجل غريب عنَّا.»
فقطعت هند الكلام وقالت: «أَلم أقل لك أني صائرة إلى الهلاك لأني علمت بما يخامر ذهنك ولكن ما الفائدة من كل ذلك وحماد في مكان لا نعرفهُ ولعلهُ ذهب فريسة غدر ذلك اللئيم.» قالت ذلك وعادت إلى البكاءِ.
فقالت والدتها: «لا تجزعي يا هند إن الله على الباغي ولكني أستغرب تعمد ثعلبة الإيقاع بهذا الشاب وليس بينهما علاقة.»
قالت: «هو الحسد والغيرة ولؤم الطمع فوالله أن هذا الخائن لا يساوي قدة من نعل حماد» قالت ذلك وهي تشرق بدموعها.
فأخذت سعدى تخفف عنها وتطيب قلبها حتى سكن روعها فأحبَّت الإطلاع على تاريخ ذلك الحب وكيفية وقوعه فقالت لها: «كيف تسلمين قلبك إلى رجل لا تعرفين حسبهُ ولا نسبهُ وأنت في ما يعلمهُ من تعقلك ودقة نظرك وحسن رويتك.»
قالت: «إنه حسيب نسيب وسيماه في وجههِ.»
فقالت: «إن الوجوه لا تدل على الإحساب يا ولدي.»
فقالت: «قد علمت أنهُ من أمراء العراق وهذا يكفي وهبي أنهُ أقل من ذلك فقد تسلط على عواطفي بقوة من الله تمجد اسمهُ فها قد أطلعتك على مكنونات قلبي.» قالت ذلك وأطرقت حياءً وقلبها يرقص فرحًا لما آنستهُ من مجاراة والدتها ووعدها بالمساعدة.
فقالت سعدى: «وكيف عرفت حسبهُ؟»
فانتبهت هند لما ارتكبتهُ من الكذب في ذهابها إلى دير بحيراء فهمت بيدي والدتها وجعلت تقبلهما وتقول: «اصفحي عن زلتي فقد ارتكبت ذنبًا يوجب غضبك.»
فقالت: «وماذا تعنين؟»
فأحكت لها حكاية دير بحيراء واعترفت بكل ما دار بينها وبين حماد باختصار وحشمة وهي تطرق تارة وتبتسم أخرى ووالدتها مصغية تتطاول بعنقها حتى أتت على آخر الحكاية فأحسَّت كأَنها أفاقت من غفلة فسايرتها وطمأنت قلبها ولكنها صبرتها لتدبير وسيلة لا تشين شرفها أو شرف عائلتها.
فإطمأَن بال هند من قبيل رضاء والدتها ولكنها ما زالت قلقة لفرار حماد بل صارت بعد ما آنستهُ من تلك الملاطفة أكثر قلقًا عليهِ كأَن خوفها من المعارضة كان شاغلًا لها عن التفكر بما وقع فيهِ حماد من الخطر فلما فرغت من ذلك الخوف تعاظم قلقها. وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب وهما لا تعلمان لو لم تريا الرعاة عائدين بالماشية من المراعي إلى الزرائب بالقرب من الصرح فهمتا بالنهوض ومشتا الهوينا وكل منهما في شاغل فكانت هند في هاجس عظيم على حماد وما هو فيهِ وهمَّها كثيرًا البحث عنهُ فرأت أن تغتنم تلك الفرصة للاستعانة بوالدتها على ذلك فدنت منها وأسندت يدها على كتفها وهما ماشيتان وخاطبتها بدالة البنوَّة قائلة: «ما الحيلة يا أماه لكف سعاية ثعلبة عن حماد أيحلُّ في شرع الله أن يذهب هذا الشهم فريسة الحسد والغدر.»
قالت: «خففي عنك يا ولدي وكوني مطمئنة فإني كافلة نجاتهُ بإذن الله ولا بد من الصبر والتؤدة لنرى ماذا تمَّ من أمر حماد وفراره.»
قالت ذلك وهي ترتاب ببقائهِ حيًا وكانت تحدثها نفسها بأعظام عمل ابنتها وتنازلها إلى حب رجل غريب وعدَّت نفسها مخطئة بمسايرتها في ذلك ولكن ضعف أملها ببقاء حماد في قيد الحياة كان يهون عليها ذلك فبالغت في طمأنتها حتى وصلت إلى صرح الغدير وقضتا بعض تلك الليلة في مثل هذه الأحاديث وفى الصباح التالى بدأَت سعدى تشتغل باستطلاع خبر حماد فعلمت بعد أيام أن هرقل عفا عن عبد الله وأمر لهُ بكتاب الأمان فأخبرت هندًا بذلك فاطمأن بالها لعلمها أنهُ إنما فرَّ خوفًا من ثعلبة واتهامهِ بالجاسوسية فغدت تترقب من يعلمها بمقر حماد لتبلغهُ ذلك فلم تجد إليه سبيلًا فلما طال غيابهُ زاد قلقها عليهِ فصبرت نفسها تنتظر ما يأتي بهِ القدر وهي تنذر النذور سرَّا لدير بحيرا.