السباق
فلما تمت المعدات على هذه الصورة نودي في الفرسان أن يتهيأُوا للسباق فركبوا جميعًا وجاؤُوا واحدًا واحدًا يلقون التحية على ملكهم جبلة فإذا وصل أحدهم أمام الفسطاط ترجل ودخل فقبل يد جبلة ويد ثعلبة وخرج وكانت هند أثناءَ ذلك تنظر في وجوه الداخلين كأنها تتوقع رؤية فارس تعرفهُ وكانت تفعل ذلك وتحاذر أن يشعر بها أحد فوقع نظرها على أحدهم وكان أحسنهم وجهًا في نحو العشرين من عمره يظهر من لباسهِ وملامح وجههِ أنهُ ليس من بني غسَّان وكان ربع القامة أسود العينين حادهما لابسًا قباءَ عربيًا وعلى رأسهِ كوفية من الحرير المزركش شدَّ فوقها العقال فحالما رأتهُ ظهرت عليها البغتة وعلا وجهها بعض الاحمرار ولكنها تجاهلت وتشاغلت ببعض الشؤون فتقدم الشاب إلى جبلة فقبل يده وخرج ولم ينتبه إلى ثعلبة أما سهوًا أو عمدًا فعظم ذلك على ثعلبة ونظر إلى هند فإذا هي تشيع ذلك الشاب بنظرها حتى خرج من الفسطاط فاستيقظت عوامل الغيرة في قلبهِ ولا داعي لتلك الغيرة غير ما فطر عليهِ من الحسد والكبرياء لكنهُ لم يفه بكلمة.
ثم مرَّ باقي الفرسان حتى تكامل عددهم وركبوا خيولهم واصطفوا إلى الحبل فلم تكن تسمع إلا قرقعة اللجم وصهيل الخيل وأصوات حوافرها تفحص بها الأرض كأنها تلح في طلب السباق ليطلق لها العنان فتجرى في ذلك السهل الواسع الأرجاء وفيها الأدهم والأشقر والمحجل والمجنب والمحبب واليعبوب والكميت وغير ذلك من أصناف الخيل.
وفيما كان الفرسان يتهيأُون للسباق كان جبلة وهند وثعلبة يتداولون في من عسى أن يكون السابق في ذلك اليوم فقال جبلة: «ما ظنكما أن يكون السابق من هؤلاء الفرسان اليوم فيفوز بهذه الدرع.» فلم يجب ثعلبة بشيء ولكنهُ اعتدل في مجلسهِ وأخذ يلاعب شاربيهِ ولسان حالهِ يقول أنا هو السابق ولا أحد سواي وكان كثيرًا ما يحرز قصب السبق في مثل هذا السباق ولكنهُ قلما أحرزه عن استحقاق لان المتسابقين إذا عرفوه وعرفوا منزلتهُ من جبلة تساهلوا في الجري معهُ فيسبقهم ويظن أنهُ إنما سبق لمهارتهِ وسرعة فرسهِ. فلما لم يجب ثعلبة قال جبلة: «ما ظنك براكب ذلك الجواد المحجل أني أراه يكاد يطير عن ظهره وهو الذي نال الجائزة في السباق الماضي.»
فخفق قلب هند عند ذكره أما ثعلبة فهزَّ رأسهُ مستهزئًا وقال: «هذا غلام غرٌ يدعى الفروسية وهي براءٌ منه ولولا الصدفة العمياءُ ما استطاع نيل تلك الجائزة ولو كنت في مقام ملك البلقاء (يريد جبلة) وكان هذا السباق تحت رعايتي ما أذنت بأن يكون بين فرسانهِ غريب لا نعرف أصلهُ ولا يليق بنا أن ندخلهُ فسطاط الملك وابنتهُ جالسة لأنهُ لا يعرف مقام الملوك.» فأدركت هند أن كلام ثعلبة صادر عن غيرة لأنهُ لا يطيق أن يمدح أحد في مجلسهِ
أما جبلة فاتخذ كلامهُ مأخذ التوبيخ ولكنهُ حملهُ محمل الإجلال لمقامهِ مع ما تقتضيهِ حدة الشباب وقلة اختبارهم فأجابهُ بلطف: «وما يمنع أن يكون غريبًا ويدخل علينا ونحن بنو غسَّان يضرب المثل بحسن وفادتنا وإكرامنا للغريب.» فخجل ثعلبة وسكت فاستأنف جبلة الحديث قائلًا: «ولكنى مع ذلك أستغرب أمر هذا الشاب لسكناه بيننا مسكن الغرباء وكثيرًا ما شاهدتهُ وقد خرج للصيد ومعهُ حاشية كأنهُ من أبناء الأمراءِ فمن أي القبائل يمكن أن يكون على أني أراه مبالغًا في إخفاء أمره وقد سألت عنهُ بعض أمرائنا غير مرة فلم ينبئونى بشيء عن أصلهِ ولا يعلم أحدٌ ما مقامهُ بيننا ولكنى سمعتهم ينادونهُ حمادًا.»
فظن ثعلبة ذلك حجة للفوز في جدالهِ فقال: «وهذا مما يحقره في عيني يا عَّماه فانهُ لا يبعد أن يكون جاسوسًا مرسلًا من ملوك الحيرة فهم ما انفكوا يناوئوننا ويريدون بنا شرًا وخصوصًا بعد أن نالهم ونال الفرس من حملات جنودنا وجنود الرُّوم هذين العامين.»
فأغضى جبلة عن الجواب ثم جاءهُ مخبرٌ أن الخيول معدة فكيف يرى الملك أن يكون سباقها قال: «ينقسم الخيالة خمسات يتسابق كل خمسة منهم في شوط على حدة فمن سبق أفرد جانبًا حتى لا يبقى أحد لم يجر في حلبة السباق ثم يتسابق السابقون جميعًا فمن أحرز قصب السبق منهم فهو صاحب الجائزة.» فعاد المخبر وأبلغ الأمراء المنوط بهم أمر السباق وترتيبهِ فقسموا الخيالة خمسات فجرت أوَّل خمسة منهم حتى توارت عن النظر لأَن مجال السباق يزيد على الميلين فعاد واحد منهم يحمل القصبة فتناولها رجل خفيف العضل سريع الجري أعد لمثل ذلك فأسرع بها وغرسها مكانها وأجلسوا السابق إلى جانب وهكذا كل خمسة على حدة
أما هند فكانت عيناها شائعتين نحو حمَّاد فلما جاءَ دوره تبعتهُ ببصرها حتى توارى ورفاقهُ ولبثت تنتظر عودتهم فعادوا والقصبة في قبضتهِ فافرد مع السابقين. فقال جبلة لثعلبة: «أرى الرجل قد سبق.» فأجاب والحسد ملءُ صدره: «أيعدُّ من يسبق هؤلاء الخمسة سابقًا تمهَّل لنرى سباقهُ مع السابقين.» فإلتفتت هند وقالت برزانة وهدوء كمن لا يهمهُ سبق حماد أو لم يسبق: «وما يمنع أن يكون سابقًا لهم جميعًا كيف نحكم عليهِ ونحن لا نعلم شيئًا من ضعفهِ أو قوتهِ. نعم يسوؤُنا أن يكون السابق غريبًا ولكن ما الحيلة إذا سبق أنقبل هذا العار على بني غسَّان»
فكان لكلام هند وقع السهام على قلب ثعلبة وإتقدت الغيرة في صدره فتبسم كأنهُ يستخف بقولها وقال: «لا يكون لهُ مسابق سواي ولأعلمنَّه الفروسية من هذا اليوم.» قال ذلك وملامح الغدر وسوء القصد ظاهرة على وجههِ فخافت أن يكون قد نوى بالرجل سوءًا فلا يزيده دفاعها إلا غضبًا وحقدًا فسكتت
وعند الظهيرة أو نحوها انقضت الأشواط الصغيرة فاجتمع عشرون سابقًا فأمر جبلة بالاستراحة لتناول الطعام وعلف الخيل
وكانوا قد أَعدوا الأسمطة في صرح الغدير وذبحوا الذبائح فجاءَت الأخونة يحملها الرجال إلى الخيم على كل خوان منها جفنات وفيها الألوان العربية والرُّومية وبعض الخمور.
وأمر جبلة أن يجلس الفرسان السابقون معهُ على خوانهِ وكان خوانهُ من ذهب خالص وجفناتهُ من فضة فجاءوُا ومعهم حماد فلما وقع نظر ثعلبة عليهِ جعل يتأَملهُ بعين النقد وحماد لا يلتفت إليه فجلسوا على الأبسطة حول السماط ركعًا على ركبة واحدة وأخذوا في الأكل وأراد جبلة أن يقف في خدمتهم على عادة كرام العرب مع ضيوفهم فاستحلفوه أن لا يفعل أو يكفوا عن الطعام فأطاع وجلس معهم والى يمينهِ ابنتهٌ هند والى يساره ابن عمهِ ثعلبة ولما أتموا الطعام وتناولوا الحلوى وبعض الخمر تلا بعض الشعراء قصيدة ذكر فيها كرم الغسَّانيين وحسن ضيافتهم فأطرق جبلة خجلا لأنهُ يستنكف من أن يسمع مدحه بأذنهِ فلما رأى الشعراء منهُ ذلك نهض أحدهم وقال: «مهما بالغنا في مدح ملوك غسَّان لن يأتي بشيء مما قالهُ فيهم حسان بن ثابت القائل
فأمر جبلة حاجبهُ فأعطى كل شاعر صرة فيها مائتا دينار وخمسة أقمصة وكانت الشمس قد دنت من الأصيل والخيل استراحت واستراح فرسانها فنودي في الناس أن هيَّا إلى السباق وكان حديث القوم: «من يا ترى سينال قصب السبق من هؤلاء العشرين.» وكان حماد أقلهم كلامًا وأكثرهم تأملا كأن في نفسهِ شيئًا يكتمهُ وقضت هند ساعة الغداء وما بعدها تتأَمل وجههُ خلسة فآنست فيهِ جمالًا وكمالًا ورزانة ودعة وكان ثعلبة يراقب حركاتها ونظراتها وينظر إلى حماد نظر الإزدراء وكان حديثهُ قاصرًا على الإطناب بما فعلهُ والده أو ما مرَّ بهِ هو من غرائب الوقائع كقولهِ مثلًا أنهُ ذهب للصيد فلقيهُ أسد فلم يفرَّ منهُ بل هجم عليهِ وضربهُ فقتلهُ أو ما شاكل ذلك من الأحاديث الملفقة وكان الحضور يصغون إلى حديثهِ ويؤمنون أقوالهُ إجلالًا لمقام والده وأكثرهم لا يصدقونهُ وهو يسرد الحكاية وينظر إلى هند يلتمس إعجابها أو استغرابها وهي لا تكترث. أما حماد فلم يكن يظهر اكتراثًا بهِ ولا انتباهًا لهُ لأنهُ كان حرًا لا يطيق التلفيق.
فلما نودي في العود إلى السباق خرج الفرسان العشرون فقال جبلة: «أرى أن ينقسموا إلى أربعة أقسام فيتسابق كل خمسة منهم في شوط فمن سبق أفرد ثم يتسابق السابقون وهم أربعة فمن سبق فلة الجائزة.» فتسابقوا خمسات فانفرد أربعة وحماد منهم.
كل ذلك وثعلبة لم يركب فرسهُ ولا نزل للسباق أنفة واستكبارًا وهو يرجو أن لا يكون حماد من السابقين فلما رآه منهم أوجس خيفة ولو علم أنهُ سيسبق ما عرض نفسهُ لمسابقتهِ ولكنهُ كان لا يزال آملًا أن يسبقهُ مسابقوه فينجو هو من خطر الفشل.
ثم اصطف الأربعة بازاء الحبل ووقف الناس على جانبي الميدان ينتظرون نهاية هذا الشوط فاعتدل الفرسان على صهوات أفراسهم ووقف جبلة وهند وثعلبة بباب الخيمة ينظرون إليهم وقلوبهم تحلق في انتظار عاقبة ذلك السباق فأطلق الفرسان أعنة خيولهم والناس يتبعونهم بأنظارهم وكان جواد حماد متأخرًا عنهم فسرَّ ثعلبة بتأخره ظانًا أنهً سيفشل ولكن هندًا علمت أن تأخره لم يكن إلا ضرابًا من الفروسية فلما تواروا عن أبصارهم وقفوا ينتظرون رجوعهم فإذا بحماد قد عاد يحمل القصبة حتى إذا دنا من خيمة جبلة سلمها إلى هند فصاح الناس صيحة التبشير بالسبق فتناولت هند القصبة وترجل حماد وقبل جواده بين عينيهِ وكان عند باب الخيمة رجل يحمل وعاء فيهِ صغ أحمر من دم الصيد ليحصب بهِ صدر الفرس إشارة إلى سبقهِ فلما تقدم ليصبغهُ اعترضهُ ثعلبة وقال: «تمهل أن السباق لم يتم بعد.» فعجب حماد وظهرت على وجههِ ملامح الاستغراب فقال جبلة: «قد وعدنا ابن عمنا ثعلبة أن ينازل السابق.» فلم يجب حماد بل عاد إلى صهوة فرسهِ ووقف ينتظر ثعلبة فجيء إليه بفرسهِ وكان من أحاسن الخيل عليهِ قلادة من الذهب الخالص وسرح مرصع بالحجارة الكريمة فركب وهو يكاد يتميز غيظًا وكانت هند في أثناء تلك البرهة فرحة بفوز حماد فشق عليها منازلة ابن عمها لهُ ولكنها عللت نفسها بفشل الباغي وهي تزداد تعجبًا بما تشاهده من حقد ثعلبة على حماد وليس بينهما ما يستدعي ذلك ولكن كبير النفس لا يستطيع تصور هذه الدنايا. ثم أمر جبلة فنودي في الناس أن السباق الآن بين حماد والأمير ثعلبة بن الحارث فوقفوا ينتظرون نهاية هذا الشوط وكان بعض الذين فاز حماد عليهم يودون أن يكون ثعلبة السابق وبعضهم يتمنون السبق لحماد ليكون لهم أسوة بابن الحارث صاحب بصرى.
فسار الفرسان في عرض ذلك السهل وقلب هند يخفق لعلمها أن فرس حماد قد تعب وفرس ثعلبة لا يزال نشيطًا فلم يمض القليل حتى عاد حماد وفي يده القصبة ووراءَه ثعلبة قد ساق جواده إلى الفسطاط وابتدر عمهُ قائلًا: «إنهُ لم يسبقني هو بل فرسهُ فانهُ من خيل الجن أو هو من صلب داحس فرس قيس بن زهير ولو ركبتهُ أنا ما استطاع أحد سبقي.» فسمعهُ حماد يقول ذلك فنزل عن فرسهِ وقال لهُ: «إليك فرسي فاركبهُ وأعطني فرسك.» وكانت هند تنظر إليهما فخافت أن تعود العائدة على حماد وقد شعرت أن حبهُ تمكن من قلبها في تلك الساعات القليلة ما لا يكاد يتأَتى بأعوام.
أما ثعلبة فقال: «ما قالهُ انتحالًا لعذر يغطي بهِ خجلهُ.» وهو لا يظن حمادَّا يعطيهِ فرسهُ فلما تنحى لهُ عنهُ لم ير مندوحة عن الركوب فركبا ونزلا إلى ساحة السباق حتى تواريا عن الأبصار فلبث الناس ينتظرون عودتهما وكأَن على رؤُوسهم الطير وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب فأرسلت بقية أشعتها الأرجوانية على تلك السهول وما وراءَها من الجبال والأودية وقد هدأَت الطبيعة وسكن جأش النهار.
فلما أبطأَ الفارسان شاعت أبصار الناس نحو حلبة السباق وملوا الانتظار حتى همَّ بعضهم بأَن يلحق بهما ليرى سبب ذلك التأَخر وكثر الهرج والمرج وكان أكثر الناس قلقًا هند فقد شاعت عيناها وخافت غدر ثعلبة ثم ما لبثت أن شاهدت الغبار وبان من ورائهِ فارسان هما حماد وثعلبة والقصبة في يد حماد فما صدقت أن رأتهُ وقد كاد قلبها يطير من الفرح أَما أبوها فشق عليهِ أن يكون السابق رجلًا غريبًا يفوز عليهم جميعًا ولكنهُ رحب بهِ فترجل الفارسان ونزلا إلى الخيمة فأراد حماد أن يعتذر عن ثعلبة فقال: «والله إني لم أسبق الأمير ثعلبة إلا بقضاء وقدر لأَّنهُ فارس مبرز يحق لغسَّان الافتخار بهِ ولو تعود ركوب فرسي قبل الآن لسبقني.» فلم يجب ثعلبة ببنت شفة ثم ناول حماد القصبة إلى هند فرأتها قصيرة فتأملتها فإذا هي مقطوعة بنصال يراها برى القلم فأرادت السؤَال عن سبب ذلك فنظر حماد إليها نظرة خيفة كأَنهُ يقول لها لا تفعلي فسكتت وفى نفسها أن تعرف سبب بريها.
ثم تقدم حامل الصبغ الأحمر فخضب بهِ صدر فرس حماد وكان الظلام قد أسدل نقابه أو كاد فأمر جبلة أن يحتفلوا بإلباس الدرع في باحة القصر فأنيرت المشاعل، وسار الناس مشاة وقد غادروا خيولهم مع سياسها بقرب الخيام، ودخلوا الحديقة وفيها الأزهار والرياحين، فنزلوا في بقعة واسعة أعدت لمثل ذلك الاحتفال ضرب فيها سرادق كبير وفرشت أرضه بالبسط، فعلقوا الشموع في جدرانه، وجلس جبلة في صدره على وسادة من الحرير الموشى وجلست ابنته إلى جانبه وثعلبة إلى الجانب الآخر وأجلسوا الشاب على مرتفع ليراه الجميع. ثم أخذت الجواري ينشدن أناشيد التهنئة وجاء بعض رجال جبلة يحمل الدرع ثم وقفت هند وأمارات السرور ظاهرة على وجهها فمشت إلى مقعد حماد فوقف لها وركبتاه ترتعشان إذ رآها قادمة لتلبسه الدرع، فنزع عن رأسه الكوفية والعقال فبانت ملامح وجهه جيدًا فازدادت هياما به ولكنها استغربت فيه أمرًا استغربه كل من شهد الاحتفال ذلك أن حمادًا لما نزع كوفيته ظهر شعر رأسه طويلًا حتى غطى ظهره فلم يفهموا معنى إرسال شعره على هذه الصورة.
فتناولت هند الخوذة أولًا فوضعتها على رأسه ثم تناولت بقية أجزاء الدرع فألبسته إياها والشعراء ينشدون والجواري يرتلن، وكلهم فرحون إلا ثعلبة فإنه لبث صامتًا مقطب الوجه ولا سيما لما رأى ابنة عمه تلبس تلك الدرع لحماد بيديها وهي فرحة بفوزه. أما هي فانتهزت فرصة انشغال الناس بالتفرج وهمست في أذن حماد قائلة: «نلتقي غدًا في دير بحيراء.»
فلما تم إلباس الدرع عادت هند إلى مجلسها والناس وقوف، وبعد قليل جاءت الأسمطة ومدت الموائد وجلس الناس للطعام. وبعد انتهاء العشاء تفرقوا فذهب كل إلى سبيله وهم يتحدثون بسباق ذلك اليوم وما كان من حماد. وبقي ثعلبة عند عمه وقد أعمل فكره في مخرج ينجيه مما وقع فيه من الفشل.
أما هند فتظاهرت بالتعب واستأذنت في الذهاب إلى غرفتها.
ولما بقي جبلة وثعلبة على انفراد، قال ثعلبة: «لم يسؤني أن سبق الرجل وإنما ساءني أن يأخذ الجائزة غريب لا يعرف له نسب ويحرم منها أمراء غسان وفرسانهم.»
فقال جبلة: «أما أنا فلم يسؤني أنه نال الجائزة فقد ينالها سواه في سباق آخر، ولكننى أعجب لتستره وقد فاتني أن أسألهُ عن أصلهُ على أنني سأَرسل إليه وأسأَلهُ في فرصة أخرى.»
فقال ثعلبة: «لا بد من البحث عنهُ لئلا يكون جاسوسًا أو عينًا علينا من قبل اللخميين ملوك الحيرة وكأنني أرى في لهجتهِ ما يدل على ذلك.»
قال جبلة: «ولكن ملك العراق قد خرج من أيدي اللخميين لما علمت من مقتل النعمان بن المنذر وولاية إياس بن قبيصة من قبيلة طي وزد على ذلك أن هذا الشاب لا يظهر في هيئتهِ وشكلهِ ما يدل على جاسوسيتهِ فهو أقرب إلى أولاد الأمراء منهُ إلى السوقة فإذا كان من أهل الحيرة فهو من أمرائهم لأن الهيبة ظاهرة على وجههِ.» فشق ذلك المدح على ثعلبة فعمد إلى الروغان فقال: «وهل يؤخذ الناس بمظاهرهم فكم من رجل تظنهُ ملاكًا فإذا خبرتهُ ظهرت لك عيوبهُ فتجده من أسافل السوقة فأرى أن نحملهُ على الإقرار بحقيقة حالهِ قسرًا فإذا كان من أهل الحيرة أخرجناه إلى بلاده وإذا كنت تستنكف من إخراجه فوالدي يخرجه لأنهُ مقيم بقرب بصرى.»
قال: «سننظر في ذلك غدًا.» فلا نحرم وسيلة نستريح بها وقضيا بقية تلك الليلة بالأحاديث المتنوعة ثم ذهب كل منهما إلى منامهِ في غرفة خاصة بالقصر.