اليأس من وجود عبد الله
تركنا حمادًا في انتظار خبر والده وسلمان يتردد إلى بصرى وضواحيها يسأل عنهُ حتى يئسا من العثور عليهِ هناك فقلق حماد لذلك كثيرًا وخاف من سوء يصيبهُ وكان سلمان في مثل قلقهِ فعاد ذات يوم من بصرى وكان قد ذهب إليها للبحث عن سيده ولم يقف لهُ على خبر فوصل خيمة حماد فرآه غارقًا في بحار الهواجس فلما دخل ناداه حماد: «ما وراءَك يا سلمان.»
قال: «ما زلت على ما فارقتني ولا أراني قادرًا على الصبر بعد هذا الانتظار فأذن لي بالمسير إلى بيت المقدس أو عمان للتفتيش عن سيدي فقد مللت الانتظار.»
فقال حماد: «ألا ترى أن أَسير أنا معك.»
قال: «لا حاجة إلى ذهابك فامكث هنا ريثما اعود.»
فقال: «هل تسير إلى بيت المقدس أم إلى عمان.»
قال: «أرى أن أسير إلى بيت المقدس أَتتبع خطوات سيدي منها حتى أَقف على خبره فضلًا عما في الطريق من هنا إلى عمان من الأخطار التي لم ننسها بعد.»
قال: «سر بحراسة الله ولا تطل الغياب فإني في انتظارك وأنت تعلم حالي من القلق.»
فودعه وخرج على جواده وقد لبس ثياب السفر وسار قاصدًا بيت المقدس فوصلها بعد أيام فجال في شوارعها حتى انتهى إلى خان علم من قيافة صاحبهِ انهُ عربي فدخل والتمس مبيتًا عنده فأعد لهُ غرفة نزل فيها وأرسل جواده إلى الإسطبل ثم بدل ثيابهُ وجاءَ إلى صاحب الخان فجلس إليه وجعل يحادثهُ في مواضيع مختلفة حتى تطرق إلى حكاية هرقل وما كان من مجيئهِ إلى هناك فآنس في الرجل علمًا ببعض الحكاية فقال لهُ: «وهل رأَيت القيصر يوم مجيئهِ.»
قال: «رأَيتهُ مارَّا بموكبهِ يوم وصولهِ ثم تراكمت علينا الأشغال لتقاطر أهل القرى والبلاد إلى بيت المقدس لمشاهدتهِ.»
فقال: «وهل يرد عليكم كثير من العرب أم كل زائريكم من الروم والسريان واليهود من أهل هذه البلاد.»
قال: «قلما يرد علينا قوافل من العرب أما في هذا العام فقد جاءَنا كثير منهم.»
فقال: «وما سبب ذلك.»
قال: «لان قيصر بعث إلى أمير من أمراء الحجاز يقال لهُ أبو سفيان فجاءَ برجالهِ وحاشيتهِ وقافلتهِ فنزلوا جميعًا في هذا الخان ومكثوا مدة بيننا فانتفعت المدينة بقدومهم لما يبتاعونهُ من الطعام لهم والعلف لخيولهم ويظهر أنهم من أهل الرخاءَ خلافًا لما تعودناه من فقر أهل الحجاز وقلة أموالهم كما هو مشهور من جدب أرضهم.»
فقال سلمان: «كثيرًا ما سمعت بأبي سفيان هذا وعهدي بهِ من أعظم أمراء مكة وانهُ كثيرًا ما يقدم برجالهِ إلى الشام وضواحيها للاتجار.»
فقال: «ولكنهُ قلما يأتي بيت المقدس أما في هذا العام فقد جاء بأمر من الإمبراطور.»
قال: «وما الذي دعا الإمبراطور إلى استقدمهِ ومن يكون أبو سفيان حتى يهتم إمبراطور الروم باستدعائهِ.»
فأحكى لهُ حكاية الكتاب الذي ورد على هرقل وما كان من أمره حتى انتهى إلى سفره من بيت المقدس.
فأراد سلمان أن يستطلع خبر سيده فقال: «أظن العرب الذين يأتونكم كلهم أو أكثرهم من الحجاز ويندر أن يأتيكم أحد من أهل العراق.»
وكان الخاناتي قد علم من لهجة سلمان انهُ عراقي فقال: «كثيرًا ما يأتينا تجار من العراق أيضًا ولكن قدومهم يكون غالبًا في أزمنة المواسم والأعياد عندما يكثر الواردون إلى القبر المقدس لان الناس يحجون إلى أورشليم من جميع أقطار العالم فيأتي الباعة والتجار من سائر البلدان أيضًا لعرض سلعهم وبضائعهم وأهل العراق يحملون إلينا مصنوعات الفرس كالسجاد ونحوه وشيئًا من محصولات العراق كالتمر وغيره.»
فقال: «هل جاءَكم أَحد منهم في هذه الأثناء.»
قال: «رأيت كثيرين ولكن لم ينزل منهم احد عندي إلَّا أميرًا جاءَنا يوم سفر أبي سفيان وسار معهُ.»
فتوسم سلمان من ذلك خيرًا فقال: «وهل عرفت اسم ذلك الأمير.»
قال: «أظنني سمعتهم ينادونهُ عبد الله.»
فتحقق سلمان انهُ سيده بعينهِ فقال: «هل تعرف شيئًا عن هذا الأمير بعد سفره.»
فأطرق الخاناتى هنيهة ثم قال: «لقد أذكرتني من شأن هذا الأمير ما يتفطر لهُ القلب.»
فاقشعرَّ بدن سلمان عند سماعه ذلك حتى ظهر الارتباك على وجههِ وتطاول بعنقهِ نحو الخاناتى وقال: «لقد شغلت بالي يا أخا العرب بما أَشرت إليه فهل أصيب الأمير عبد الله بسوء.»
قال: «كلاَّ لم اسمع عنهُ شيئًا من هذا القبيل ولكنني علمت انهُ أصيب بفقد ولد لهُ أكلتهُ السباع في مسبعة الزرقاء.»
فعجب سلمان وإلتفت إلى الخاناتى باهتمام وقال: «اعترف لك يا سيدى أن أمر هذا الأمير يهمني كثيرًا لأنه سيدي وأنا إنما جئت للتفتيش عنهُ فهل تتفضل بتفصيل حكايتهِ وما تمَّ لهُ ومن أنبأَه بمقتل ابنهِ.»
قال: «لا أَخفي عليك شيئًا اعرفهُ من هذا القبيل فقد جاءَنا هذا الأمير يوم سفر أَبى سفيان ولحظت انهُ سار في ضيافتهِ فلما خرجت القافلة أرسلت معها بعض خدمة الخان ليشيعوها لعلها تحتاج إلى إرشاد في اختيار بعض الطرق دون غيرها وكان مع القافلة جواد عثر عليهِ شاردًا في بعض السهول أَثناءَ مجيئهم إلى الشام فلما همت القافلة بالمسير قدَّم أبو سفيان ذلك الجواد للأمير عبد الله ليركبهُ فلما رآهُ هذا عرفهُ انهُ جواد ولدٍ لهُ كان قد فارقهُ في بعض جهات الزرقاء فالتبس عليهِ أمر الجواد وفراره واحكي حكايتهُ هذه لأبي سفيان فرافقهُ هذا مع بعض رجالهِ إلى المكان الذي رأوا الفرس فيهِ وبلغني أنهم عثروا على بقايا فرس آخر تحت شجرة وأشياء أخرى استدلوا منها على ذهاب الغلام فريسة السباع فبكى ذلك المسكين بكاء ًمرًّا وندب ابنهُ وبالغ أبو سفيان بتعزيتهِ فلم يتعزّ.»
وكان سلمان أَثناء هذه الحكاية مصغيًا وقلبهُ يخفق فلما وصل الخاناتي إلى هذا الحد أَحس سلمان بقشعريرة وقف لها شعره وقال للرجل: «وماذا تمَّ لهُ بعد ذلك.»
قال: «سمعت انهُ لما تحقق موت ابنهِ لم يعد يحلو لهُ الذهاب إلى منزلهِ في بصرى فسار مع القافلة إلى الحجاز.»
فقال سلمان: «وهل تحققت انهُ سار إلى الحجاز.»
قال: «هذا ما سمعتهُ ولا أدري إذا كان قد عدل عنها بعد ذلك.»
فقال سلمان وقد ظهرت البغتة على وجههِ: «أني اعترفت لك بأهمية هذه الحكاية عندي واشكر الله لنزولي عليك حتى سمعت هذا الحديث منك ولكنني أَرجو أن تزيدني إيضاحًا ما استطعت.»
فقال الخاناتى: «لقد رأَيت من اهتمامك وظهور البغتة على وجهك ما حرَّك في الاهتمام لمعرفة مصير هذا الأمير فلندعُ المكاري الذي قص الخبر عليَّ بعد عودتهِ لعلهُ يزيدنا إيضاحًا.» قال ذلك ونادى المكاري وكان مشتغلًا ببعض شؤُون الخان فجاءَ فسألهُ عما يعلمهُ من تفاصيل حكاية عبد الله.
فاحكى القصة كما قالها الخاناتى مع بعض التفصيل حتى انتهى إلى مسير القافلة بعد الرجوع من مسبعة الزرقاء فقال: «رأَيت ذلك الأمير عائدًا على قدميهِ يحمل سيف ابنهِ وعباءَتهُ وكان قد عثر عليهما عند ضفة غدير هناك فاستأنس بهما واشتم رائحة ابنهِ منهما وأما الجواد فكان مسوقًا وراءَه كئيبًا كأَنهُ عام بمصير صاحبهِ فلما وصلوا إلى الطريق دعاه أَبو سفيان للمسير معهُ إلى الحجاز أو أن يوصلهُ إلى منزلهِ في بصرى فقال انهُ يريد العود إلى بصرى ثم تردد في الذهاب إلى الحجاز ولكنهُ رافقهُ وساروا جميعًا وعدنا نحن ولا نعلم ما تمَّ لهُ بعد ذلك.»
فقال سلمان: «أَلم تسمعهُ يذكر عمان وعزمهُ المسير إليها.»
قال: «لا أَذكر أني سمعتهُ يقول شيئًا من هذا القبيل.»
فبهت سلمان برهة يفكر في ما سمعهُ وقد علم أن سيده لا يصبر على ما ظنهُ من ذهاب حماد فريسة للسباع وخاف أن يكون قد حملهُ ذلك على مهاجرة الشام والمسير إلى الحجاز مع أَبي سفيان ولكنهُ رأَى ذلك إذا فعلهُ سيده لا يخلو من المسارعة وهو يعلم أن عبد الله عاقل لا يأخذ الأمور بمظاهرها فلبث برهة يفكر ثم استأذن الخاناتي في الذهاب إلى غرفتهِ ليتبصر في الآمر بعد أن شكره لما قصهُ عليهِ.
فلما خلا في غرفتهِ أخذت تتقاذفهُ الهواجس وهو يفكر في الأمر وقد انقبضت نفسهُ خوفًا مما قد يصيب سيده من عواقب اليأس وعظم عليهِ الرجوع إلى حماد بهذا الخبر المشئوم فضلًا عن انهُ لا يفيدهُ شيئًا فقضى بقية ذلك النهار وطول الليل في مثل هذه الهواجس فلاح لهُ بعد إعمال الفكرة أن يتبع خطوات سيده بنفسهِ فيسير إلى عمان لعلهُ يقف على ما يحلو لهُ الحقيقة.
فلما أصبح سار إلى الخاناتى وأطلعهُ على عزمهِ واستأذنهُ في مسير ذلك المكاري معهُ فأطاعه فركب سلمان والمكاري في ركابهِ وكلما مرَّا بمكان احكي لهُ المكاري واقعة حالهِ حتى تجاوزا طريق المسبعة ووصلا إلى النقطة التي عاد المكاري منها فقال سلمان: «ألا تسير معي إلى عمان لعلنا نسمع هناك خبرًا جديدًا.»
قال: «أني في ركابك إلى حيثما تريد ولكنني سمعت منذ أيام أن بالقرب من عمان جماعة من قريش جاؤوا لمحاربتنا فلا نأمن إذا رأونا أن نقع في أيديهم غنيمة باردة.»
فتذكر سلمان انهُ سمع مثل ذلك قبل خروجه من بصرى أيضًا فتردد في الأمر ولكن نفسهُ لم تطاوعه على الرجوع قبل الوصول إلى عمان فقرَّ رأيهُ على الذهاب إليها من طرق مجهولة لا يطرقها إلَّا القليل من الناس والمكاري يعرفها فسارا حتى انتهيا إلى عمان فلم يجدا فيها أثرًا ولا خبرًا.
فعاد سلمان يئسًا حزينًا لا يدري كيف يقابل حمادًا بهذا الخبر الابتر على انهُ كان يتوهم أن سيده ولو أطاع عواطفهُ في حال تأَثرها وسار إلى الحجاز لا يلبث أن يهدأ روعهُ ويعود إلى البلقاء للبحث عن ابنهِ ولا اقلَّ من يرجع إلى بصرى بعد أن عفي عنهُ فيتفقد ما ادخروه من المال والمثمنات في منزلهم بغسام.
فقضى سلمان طول الطريق في عودتهِ وهو يفكر في ذلك وكثيرًا ما حدثتهُ نفسهُ أن يتأثر سيده إلى الحجاز لو لم يعترضهُ الشك في مسيره إليها وعوَّل أخيرًا على الرجوع إلى حماد والمداولة معهُ في هذه الشؤُون فإذا تحقق ذهابهُ إلى الحجاز سار للتفتيش عنهُ فيها.
فلما وصلا إلى منعطف من الطرق يؤدي إلى البلقاء رأسًا أثنى على المكاري وأكرمهُ وودعه وسار قاصدًا حمادًا.