حمَّاد في خيمته
لم يكد يتوارى سلمان عن حماد يوم خروجه إلى بيت المقدس حتى أَحسَّ حماد بالوحشة لإنفراده في تلك الخيمة بعيدًا عن حبيبتهِ قلقًا على والده فجلس يفكر في ما مرَّ بهِ ذلك العام من الأهوال وما رآه من حوادث الأيام وتذكر حالهُ قبل قدومهِ البلقاء يوم كان خلي البال لا يعرف الهواجس فعلم أن السبب في ذلك كلهِ الحب فتذكر هندًا وما نالهُ من رضاء والدتها فرقص قلبهُ طربًا ونسي ما ينتابهُ من الشواغل والحب مع ما وصفهُ بهِ أمام العاشقين بقولهِ.
فهو إذا رضي الحبيب تعزية للمحبين ينسيهم الهموم ويخفف عنهم الأحزان.
فلم يكن لحماد تعزية في غربتهِ وهواجسهِ إلَّا رضاء حبيبتهِ فإذا تراكمت عليهِ الأحزان تذكرها وتصوَّر قربها فتنتعش جوارحه وتثوب إليهِ آمالهُ فينجلي صدره وتنبسط نفسهُ.
فلبث في خيمتهِ برهة يتردد بين اليأس والرجاء ينقبض تارة وينبسط أخرى حتى كان المساء فسمع خوار ثور بين الخيام فعلم أن مضيفهُ عائد من مرعاه فحسده لسذاجتهِ وقلة شواغلهِ ولبث يفكر في أَ مره وود لو انهُ في مثل حالهِ خلي البال قليل البلبال لا يهمهُ من دنياه إلَّا ما يرجوه من غلة أرضهِ أو نتاج ماشيتهِ ولكنهُ تذكر أن ذلك الشيخ لا يعرف الحب ولا شعر بلذتهِ فخيل لهُ انهُ أشبه بالحيوان الأعجم منهُ بالإنسان.
وفيما هو يتأمل سمع وقع خطوات بالقرب من الخيمة علم من خفتها أنها خطوات الشيخ لأَنهُ كان لا يمشي إلَّا حافيًا فاحتفر لاستقبالهِ فإذا بهِ قد دخل الخيمة والمنجل لا يزال في يده وقد كسا لحيتهُ وعمامتهُ الغبار وانفتح قميصهُ عن صدره فبان الشعر متجعدًا كأنه نبت الربيع يعانق بعضهُ بعضاُ فلما رآه حماد وقف لهُ وحياه إكرامًا لشيخوختهِ فألقى الشيخ المنجل عند باب الخيمة ودخل وعلى وجههِ ملامح البشر حتى كاد يبتسم وكان قد عاشره أيامًا لم يرَ ثغره باسمًا قط على انهُ قلما رآه منقبضًا أو مهتما فلما رآه يبتسم أحسَّ بارتياح وسرور ودعاه إلى جانبهِ وأخلى لهُ مجلسًا على البساط فأبى الجلوس إلَّا على الأرض فجلس وهو يحك إحدى كفهُ بالأخرى لينزع ما لصق بهما من التراب فلما تفتت التراب عنهما جعل ينفض لحيتهُ البيضاء لينزع عنها ما علق بها من الأتربة.
فبدأ حماد بخطابهِ قائلًا: «كيف أنت اليوم أيها الشيخ أرجو أن تكون في خير وعافية.»
فنزع الشيخ عمامتهُ وتشاغل بنقرها لينفض غبارها وقال: «نحمد الله على خيراتهِ فقد سرني اليوم أن بقرتي ولدت عجلًا أبلق ولا يمضي عليهِ العام أو العامان حتى استخدمهُ في الحراثة فيغنيني عن تربية البنين وهمومهم.»
فعجب حماد لسذاجة البدو وقلة هموم أهلها فأراد مداعبتهُ فقال لهُ: «أيكفيك من دنياك رعاية الماشية وتربية العجول والغسَّانيون متمتعون بالسلطة والسيادة.» وكان حماد عالمًا بما يتقولهُ الأنباط على الغسَّانيين كما تقدم.
فضحك الشيخ مستهزئًا وقال: «لا يغرنك من دنياك يوم نعيم فإنها لا تحسن يومًا حتى تسئَ أيامًا فلا تفرح للحارث الغسَّاني من اجل يوم استبدَّ فيهِ فقد جاءَه من ينزع عنهُ السيادة ويلحقهُ بأجداده أصحاب السيل العرم الذين إنما جاؤُونا فرارًا من الفقر بعد أن كانوا يقيمون في أرض تستقي من مستنقعات يجمعونها من مياه الأمطار وراء سد من حجر فلما أنهدم السد سال الماء فاغرق السهول ولم يعودوا يستطيعون بناءَ السد لضعفهم وقلة تدبيرهم فأجدبت أرضهم ففروا في جملة من فرَّ منها إلى هذه البلاد منذ قرون متطاولة وقدَّر لهم الملك عن غير استحقاق فجاءَهم الآن من ينزع الملك منهم ويكسر شوكتهم ويعلمهم مالهم وما عليهم.»
فعلم حماد أن الشيخ يشير إلى حكاية سيل العرم في جهات اليمن وما كان من تفرق بني قحطان بعده والغسَّانيون في جملتهم ولكنهُ لم يفقه ما أراده من قوله بقرب زوال ملكهم فقال لهُ: «وما تعنى بزوال ملكهم ونحن لا نراهم يزدادون إلَّا قوة ومنعة.»
قال: «ألم تسمع بالعدنانيين الذين قدموا من الحجاز في هذه الأثناء فقد جاؤوا جماعة كبيرة ليقتصوا من الغسَّانيين ويبيدوهم عن آخرهم.»
فقال: «وما اوجب الاقتصاص وأي علاقة بينهما والحجاز على مسافة أيام من الشام والناس هناك في شاغل بإصلاح دينهم فقد ظهر فيهم من يدعوهم إلى دين الله وقد سمعت بأنه انشأَ فيهم دولة جديدة دانت لها كل بلاد العرب فأهل الحجاز في شاغل عن هذه البلاد.»
فضحك الشيخ وقال: «كل ذلك من تدبير الله. وأما ما اوجب مجيء العدنانيين فهو وقاحة الحارث الغسَّاني وكبرياؤه فقد أنبأني بعض المارين من هنا أن نبي قريش الذي ذكرتهُ كتب إلى الحارث كتابًا يدعوه فيهِ إلى دينهِ فبدلًا من أن يقرأَهُ ويتأملهُ ويرد الرسول ردًّا جميلًا مزق الكتاب وأهان الرسول فشق ذلك على صاحب الرسالة فأنفذ جندًا لحرب الحارث وفتح بلاده.»
فاهتم حماد بذلك الخبر كثيرًا لعلمهِ أن الحرب إذا قامت عرقلت مساعيهُ وحالت بينهُ وبين ما يريد فضلًا عما يخافهُ على هند من الخطر لان جبلة لا بد لهُ من نصرة ابن عمهِ الحارث على انهُ لم يكن يخاف انهزامهم أو خذلانهم لما كان يتوهمهُ من ضعف أهل الحجاز وقلة خيراتهم كما هو مشهور عن تلك البلاد منذ القدم ولكن خوفهُ على هند من عواقب الحرب همهُ كثيرًا فلبث برهة يفكر في أمره ثم قال للشيخ: «وهل أنت واثق بمجيء هؤلاء الحجازيين.»
قال: «لا ريب عندي من ذلك.»
قال: «العلك سمعت الخبر عن ثقة.»
قال: «سمعتهُ من خبير وهمني أَمره كثيرًا حتى تحققتهُ إذ يسرني خذلان الغساسنة فقد قلت لك أنهم أعداؤنا.» وكان ذلك الشيخ النبطي يظن حمادًا يفرح بسقوط دولة بني غسَّان لأنه من لخم ولم يدر من لهُ في صرح الغدير.
فلبث حماد صامتًا لا يدرى ماذا يعمل وتذكر سلمان ووالده فتراكمت همومه فإلتفت إلى الشيخ فإذا هو قد ذبلت عيناه وغلب عليهِ النعاس شأن المشتغلين مثل شغلهِ على خلو بالهم وخصوصًا من كان في مثل سنهِ فانك بينما أنت تخاطبهُ في شأن لا تلبث أن تراه ينام فتركه حماد واشتغل بهواجسهِ.
ثم أَفاق الشيخ مذعورًا لصوت ثيرانهِ وهمَّ بالخروج من الخيمة وهو يقول: «لقد تقاتل الثوران.» فخرج حماد في أثره وكان الليل قد سدل نقابهُ فسارا حتى دنوا من مربط الثيران فإذا هي لا تتقاتل ولكنهما شاهدا بينها جملًا غريبًا فتقدم الشيخ إليه وامسكه بعنقهِ وأبعده عن ثيرانهِ حتى دنا بهِ من نار موقدة يستضاء بها وحماد يراعيهِ بعينيهِ ولم يكد الشيخ يتأمل ذلك الجمل حتى ضحك وقال: «وهذه ناقة من نوق أهل المدينة قد تخلفت عن جند الحجاز الذي قلت لك أنهم جاؤوا لحرب الغسَّانيين.»
فقال حماد: «وما الذي دلك على ذلك.»
قال: «دلني عليهِ شكل الرحل فانهُ خاص بأهل المدينة وكثيرًا ما أَرينا من أمثال هذه النوق مارة بنا إلى الشام وغيرها.»
فقال حماد: «يظهر أن هؤُلاء العدنانيين قد أصبحوا على مقربة منا.»
فقال الشيخ: «لا أَظنهم قريبين فقد يكون بيننا وبينهم مسافة أيام ولعل هذه الناقة قد تاهت منذ بضعة أيام.» قال ذلك وهو يعقلها ويأتي لها بالعلف.
فتركهُ حماد وعاد إلى خيمتهِ وقد تمثل لهُ الأمر بجسامتهِ فعظم عليهِ أن يذهب أملهُ أدراج الرياح لاشتغال جبلة بالحرب فشعر باحتياجه إلى سلمان فصبر نفسهُ ريثما يعود إليه بخبر والده.