سلمان وأَخبارهُ
وبعد أيام عاد سلمان كاسف البال لخيبة مسعاه في إلتفتيش عن سيده وكان حماد قد ملَّ الانتظار فاستطلعهُ كنه ما علمهُ فاحكي لهُ ما سمعهُ ثم قال: «يلوح لي أن سيدي رافق أَبا سفيان إلى الحجاز إذ يظهر مما سمعتهُ انهُ تحقق خبر مقتلك فلم يبق لهُ وطر في الحياة ولعل أبا سفيان حبب إليهِ السفر ورغبهُ في المسير إلى الكعبة فجاراه.»
فقال حماد: «لا أَظنهُ يفعل ذلك قبل أن يأتي بصرى ويستخرج المخباة التي خبأناها في غسام.»
فقال: «وما أَدرانا انهُ لم يأت بعد أن استخرجناها أو لعلهُ أَرسل من يبحث عنها فلم يظفر بها وعلى كل حال أن سيدي ليس في فلسطين ولا البلقاء ولا عثرت عليهِ في عمان ويؤخذ من مجمل ما سمعتهُ انهُ سار إلى الحجاز فهل تأذن لي في الذهاب إلى مكة للتفتيش عنهُ.»
قال: «لو كنَّا على يقين من ذهابهِ إليها لسرت أنا بنفسي ولكننا إنما نرجم بالغيب وزد على ذلك إننا في حال تدعو إلى القلق من أمر الحرب المنتظرة بين الحجازيين والغسَّانيين وقد سمعتك تشير إليها في أَثناء حديثك وكنت في ريب من أمرها مع أني سمعتها من شيخنا النبطي منذ أيام.»
فقال سلمان: «أَما مجيء هؤلاء الرجال فلا شك فيهِ لأني شاهدت معسكرهم شهادة عين بجوار عمان وأما سيدي فالأرجح انهُ سار إلى الحجاز أو لعلهُ أُصيب بما عاقهُ عن المجيء إلى البصرى ولا يلبث أن يأتي إليها فإذا لم نرهُ بعد أيام علمنا انهُ سار مع أَبى سفيان إلى مكة.»
فلم ير حماد بدًا من التربص لما سيظهر من هذا القبيل ولكنهُ عاد إلى امره مع هند وما عسى أن يكون من شأنها بعد طول الانقطاع وخاف أن يتغلب الفتور على قلبها فيذهب سعيهُ هدرًا.
فقال: «عليك يا سلمان أن تتردد إلى بصرى لعلك تسمع شيئًا عن والدي ولا تنس البحث عن هند ووالدها فقد علمت ما داهم الغسَّانيين من امر الحرب على حين غفلة وأخشى إذا حمى وطيسها أن تذهب آمالنا كلها أدراج الرياح.»
فقال سلمان والقلق ظاهر على وجههِ: «وما أدراك أنني غافل عن هذا الأمر وهو شاغل فكرى ليلًا ونهارًا وكنت عازمًا على استئذانك في الذهاب إلى بصرى في صباح الغد فقد سمعت الناس يتقوَّلون أقوالًا لم أصدقها.»
فبغت حماد وقال: «وماذا عسى أن يكون تقولهم وعمن يتقولون قل ما الذي سمعتهُ.»
قال: «لم أسمع شيئًا يوجب قلقًا لأني على يقين من حب هند وثباتها في حبك.»
فازداد حماد اندهاشًا وقال: «هند؟ وما شأن هند وماذا يتقوَّل الناس عنها قل ياسلمان.»
قال: «هدئ روعك فإني لا أخفي عنك شيئًا وخصوصًا أن ما سمعتهُ لا يوجب قلقًا ولا يجرُّ إلى خوف.»
فقال حماد وقد نفد صبره: «قل ماذا يقولون.»
قال: «سمعت الناس يتحدثون في بصرى وضواحيها أن ثعلبة طلب الاقتران بهند.»
فلما سمع حماد اسم ثعلبة مقرونًا باسم هند وقف شعره واقشعرَّ بدنهُ وقال: «وكيف طلب ذلك ومتى.»
قال: «سمعت انهُ طلبها بواسطة والده الحارث وان والده خاطب جبلة فوعده.»
فصاح حماد: «وبماذا وعده.»
قال سلمان وهو يبتسم: «ما لى أراك قليل الصبر خفف عنك وأصغ إلى ما أقول فقد عهدتك صبورًا حازمًا.»
قال: «إني صبور على كل شيء إلَّا على هند قل ما كان وعده.»
قال: «وعده بمخاطبة الفتاة أو بالحري بمشاورة والدتها إذ لا تجهل أن اقتران البنات قلما يتوقف على إرادتهنَّ.»
فقال حماد: «وماذا كانت النتيجة.»
قال: «لم أتحقق الخبر بعد فقد قال بعضهم انهُ خاطبها ولم تقبل وقال آخرون انهُ لم يخاطبها بعد ولكن صديقًا لي من أهل بصرى صادقتهُ على أثر هجوم ثعلبة على منزلنا يوم قبضوا على سيدي الأمير وأظنهُ أَعلم الناس بحقيقة الواقع أنبأني أمس وقد لقيتهُ في الطريق بجوار بصرى أن الحارث استبطأً جواب جبلة بشأن هند فسار إليه ثانية يستعجلهُ في الجواب على أَثر قدوم هؤلاء الحجازيين لأنهُ يريد التعجيل في الاقتران قبل انتشاب الحرب.»
فخفق قلب حماد كمن أَخفق مسعاه ووقف وقد امتقع لونهُ وقال: «ما هذه الأحاديث يا سلمان فإني أراني في حلم أتظن آمالنا ومساعينا قد ذهبت عبثًا وهل ترضى هند بابن عمها ثعلبة.» قال ذلك والدمع يكاد يتناثر من عينيهِ.
فإتقدت الشهامة والغيرة في قلب سلمان وهمَّ بحماد فضمهُ إلى صدره وقال لهُ: «خسئَ النذل أن هندًا أَرفع من أن تدنس قلبها بمحبتهِ وأنت اعلم مني بأنفتها وعزة نفسها وكرهها لثعلبة ويلوح لي أن البطءَ في جوابها ناتج عن تمنعها.»
فانتعش حماد لذلك الكلام ولكنهُ مازال خائفاُ من أن تؤخذ الفتاة قسرًا فقال: «حاشا لقلب هند أن يحب ذلك الخائن ولكنني أخاف أن تحمل على القبول بهِ مراعاة لعلاقة أَبويهما لما بينهما من النسب وما يخشى من عواقب الرفض فقد يصعب على هند أن ترفض ما يريده أبواها.»
فقال سلمان: «لا يصعب عليها ذلك ووالدتها نصيرة لها فقد آنست من هذه المرأة يوم قابلتها وأنا في زي الراهب ما دلني على دهائها وقوة جنانها فهي إذا أرادت تحويل زوجها عن أمر لا يصعب عليها.»
قال حماد: «ومن ينبئنا ببقائها على ذلك ونحن لم نر من حديثها في ذلك اليوم ما يدل على إخلاصها لنا وزد على ما تقدم أن مجاراة جبلة في رفض ثعلبة لا يضمن لنا رضاءَه بسواه.» (يريد نفسهُ).
فأدرك سلمان وعورة المسلك ولكنهُ أَظهر الاستخفاف بهِ وقال: «دع ذلك إليَّ فإني ذاهب في صباح الغد لاستطلاع الخبر وتدبير الحيلة والله يفعل ما يشاء.»
فسكت حماد لا عن اقتناع ولكنهُ صبر نفسهُ ينتظر ما يأتي بهِ القدر.