وعند جهينة الخبر اليقين
وباتوا تلك الليلة وحماد لم ينم إلا قليلًا لما تراكم عليهِ من الهواجس أَما سلمان فقضى ليلتهُ يفكر في سبيل يوصلهُ إلى المراد فنهض في الصباح التالي وفي نيتهِ الشخوص إلى صرح الغدير لاعتقاده أن الخبر اليقين عند هند فلبس ثياب الرهبان وركب جواده وسار حتى إذا أَتى الصرح سأَل عمن يقيم فيهِ فقيل لهُ أن جبلة برحه منذ ايام بعد أن جاءَه لزيارة. فتقدم إلى باب الحديقة فاستقبلهُ بعض الخدم وسأَلهُ عن غرضهِ فقال انهُ جاءَ بمهمة من رئيس دير بحيراء إلى الأميرة سعدى وطلب مقابلتها فسأَلوها فأذنت بدخولهِ فلما خلت بهِ عرفنهُ فسأَلتهُ عن حماد فأَنبأَها بحالهِ وإنهُ جاءَ يستطلع ما تمَّ من أمره فاستدعت هندًا وكانت في غرفتها تفكر في حماد وهي لا تعلم مقرهُ فلما سمعت بمجيء سلمان خفق قلبها وأسرعت إليهِ وأمارات البغتة تلوح على وجهها فلما رآها سلمان قام لها وسلم عليها وطمأنها عن حماد وسأَلها عن صحتها فطمأَنتهُ وكان سلمان في أَثناء الحديث يراقب حركات سعدى لعلهُ يلاحظ فيها ما كان يخافهُ من أخلاقها فآنس منها ما حقق آمالهُ برضائها ولكنهُ ما زال قلقًا لما عساه أن يكون من أمر ثعلبه وطلبه فجعلوا يتجاذبون أطراف الحديث وأكثره بين سلمان وسعدى فعلم سلمان ما كان من عدول جبلة عن ثعلبة ورضائهِ بحماد فسرَّ سرورًا لا مزيد عليهِ حتى رقص قلبهُ من الفرح وود لو أن لهُ أَجنحة ليطير بها إلى حماد يبشره بذلك.
ثم قال لسعدى: «وما هو موعدنا من مخاطبة سيدي الملك بهذا الشأن.»
قالت: «نحن على موعد من مجيئهِ إلينا بعد أيام فإذا كان يوم مجيئهِ يتقدم حماد في طلب هند فينال مبتغاه.» وكانت هند في أَثناء ذلك مطرقة حياءً لا تتكلم وقلبها يرقص طربًا. فقال سلمان: «ومن ينبئنا بذلك اليوم ونحن بعيدون عن هذا القصر.»
قالت: «نبعث معك من يعرف مقرَّكم فإذا كان اليوم المعهود أرسلناه في طلبكم.»
قال: «حسنًا» وهمَّ بالخروج فوقفتا لهُ فودعهما وخرج وهو لا يصدق انهُ سمع ما سمعهُ ولكنهُ لم يعلم بما سيقوم في سبيل سيده من العقبات ورافقهُ خادم انتدبوه لهذه المهمة على أن يكتمها.
ولا تسل عن فرح حماد بلقاء سلمان وما كان من سروره لما سمعهُ حتى تمثلت لهُ السعادة عبدًا رقًّا ونسي والده وضياعه لا عن عقوق ولكن الحب تغلب عليهِ فوعد نفسهُ بالبحث عن والده بعد أن يصير صهرًا لملك غسَّان فيكون اقدر على ذلك لما يرجوه من مساعدة عمهِ.
فلنتركه في فرحه ولنرجع إلى جبلة وما كان من أمره بعد رجوعه إلى صرح الغدير فانهُ ما لبث أن توارى عن الصرح حتى انجلى لهُ خطأُه وما كان من تهوره في مجاراة امرأَتهِ بشأن حماد ولم يعلم كيف يجيب الحارث عن طلبهِ وقد عظم عليهِ أن يردَّه خائبًا بعد أن وعده لما في ذلك من ضعف الرأي فقضى معظم الطريق في مثل هذه الهواجس فلاح لهُ أخيرًا أن يكتم حقيقة الأمر ويجعل جوابهُ تأجيل الخطبة إلى ما بعد انقضاء الحرب على نية أن يبعث حمادًا في مهمة لا يعود منها وإذا عاد إنما يعود خائبًا فلا يستطيع طلبًا ولا ينال وطرًا.