جبلة والحارث
تركنا جبلة في حيرة من أمر الاقتران وتأجيلهِ وهو في طريقهِ من صرح الغدير إلى البلقاء فلما وصل البلقاء سمع بتحرك الحجازيين من عمان فقال في نفسهِ (هذا عذر يساعدني على ما أريد فان زحف الأعداء إلينا عذر كاف للاشتغال بهِ عن كل شاغل) فكتب إلى الحارث يستقدمهُ إليهِ لأن البلقاء اقرب إلى عمان من بصرى وألح عليهِ في المجيء وذكر في كتابهِ انهُ يريد المداولة معهُ بشأن الحرب توصلًا بذلك إلى تأجيل الاقتران فسار الحارث إليهِ كما تقدم.
فلما التقيا سلما وأسرعا إلى خلوة تداولا فيها سرًّا.
فقال جبلة: «قد دعوتك يا ابن العم للبحث في الوسائل التي يجب اتخاذها لدفع هؤلاء القادمين فقد علمت أنهم تحرّكوا من عمان شمالًا فهم بلا ريب يقصدون هذه الديار ولا يلبثون أن يأتونا وقد بعثت العيون يراقبون حركاتهم لينبئونا بمعسكرهم فاعدد رجالك وها أني قد أعددت رجالي.»
فقال الحارث: «قد شاهدت العشائر في الطريق يستعدون للمسير إليكم وأوصيت ولدنا ثعلبة أن يكتب إلى العشائر الأخرى لتجتمع بجوار بصرى فإذا اجتمعوا وعلمنا معسكر الأعداء حملنا عليهم معًا ولا أَظننا نلقى مشقة في دفعهم لقلتهم وفقرهم فقد علمت أنهم حفاة الأقدام لا يلبسون إلَّا شملات يلتحفون بها كما يفعل سائر أهل الحجاز لا يكاد يتميز أميرهم من صعلوكهم ويلوح لي أننا إذا رأَينا منهم ما أَتعبنا أَرضيناهم بمال ندفعهُ إليهم ولا نظنهم جاؤُنا إلَّا طمعًا بذلك لعلمهم بخيرات الشام وغنى دولة الرُّوم.»
قال ذلك ليوهم جبلة أن مجيئهم ليس مبنيًا على سوء معاملتهِ لحامل كتابهم إليهِ.
فقال جبلة: «لا نرى أن نعرض عليهم ذلك إلَّا بعد أن نرى منهم مقاومة ولكنني لا أظنهم يقفون أمام جندنا يومًا واحدًا.»
ثم تذكر جبلة أمر ثعلبة وهند فقال: «قد ذكرتَ أن ولدنا ثعلبة يهتم بمكاتبة العشائر فهل هو في بصرى الآن.»
قال: «نعم هو هناك وقد أَسفت لهذه الحال التي ستحول بيننا وبين الاحتفال بزواجه ببنتنا هند.»
فقال جبله (وقد سرَّ بهذا العذر): «بالحقيقة انهُ موجب للأسف على أني لا أرى مانعًا من تأجيل الاقتران إلى ما بعد الحرب فان فرحنا إذ ذاك يكون مزدوجًا والاثنان ولدانا والأمر معقود لهما منذ ولدا.»
فابتسم الحارث فرحًا لما نالهُ من تأجيل الاقتران عفوًا فقال لجبلة: «بورك فيك فقد كنت أميل إلى ذلك واستحسنهُ وأخشى إذا ذكرتهُ لك أن تظن سوءًا فنشكر الله على توارد رأيينا ولا بد من أن يكون ذلك هو الصواب.»
فقال جبلة: «نعم انهُ الرأي الصواب وسأَسير إلى صرح الغدير فأرى سعدى وأُنبئها بما تمَّ عليهِ الأمر لئلا تكون مشتغلة في الاستعداد بعد أن خاطبتها في التعجيل على أَثر تعجيلك فلا بد من إبلاغها خبر التأجيل ولا أَحب أن يكون ذلك على يد احد سواي.» (وهو إنما يريد المسير بنفسهِ للمداولة بشأن المهمة التي يريد إرسال حماد فيها)
فقال الحارث: «افعل ما بدا لك وفقنا الله بما فيهِ الخير.» ثم خرجا وسأل جبلة عمن سار لتفقد حركات الأعداء فقالوا: «إنهُ جاءَ» فاستقدمهُ وعاد بهِ والحارث معهما إلى مكان منفرد وكان الرسول ممن خالط الحجازيين وأحسن تقليدهم فاختاره جبلة ليختلط بهم ويستطلع حالهم فأَنبأَهما بأنهم قاموا من عمان وساروا يريدون مؤته عند الكرك وأنهم سيصلونها قريبًا.
فقال الحارث: «أَتظنهم يصلون الينا.»
قال جبلة: «ربما فعلوا ذلك.» ثم تحوَّل نحو الرسول فقال لهُ: «وهل عرفت عددهم وقواتهم» قال: «أَظنهم لا يتجاوزون ثلاثة آلاف مقاتل وليس معهم من العدة والسلاح إلَّا شيءٌ قليل لا يقاس بعدة رجالنا وأسلحتهم.»
فضحك الحارث مستهزئًا وقال: «أَثلاثة آلاف فارس جاؤوا من اقاصي الحجاز ليحاربوا الروم وجنودنا تتجاوز مئة الف ومعها الخيول والسلاح.»
فقال الرسول: «وقد علمت أنهم أدركوا ضعفهم وقلتهم وربما وقفوا هنيهة ريثما يستقدمون مددًا لهم من الحجاز.»
فقال الحارث: «أَعلمت أنهم بعثوا يستقدمون المدد.»
قال الرسول: «كلا ولكنهم تداولوا في ذلك والأرجح أنهم لا يفعلون فقد سمعت مداولتهم وأنا جالس بين جماعة منهم كأَنى احدهم فقال قائل من بينهم: «كيف نهاجم بلادًا لا يقل جندها عن مائة مقاتل وقد يبلغ المئتين فلنطلب المدد.» فقام رجل من كبارهم اسمهُ عبد الله بن رواحة فقال لهم: «يا قوم والله أن الذي تكرهون للذى خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل الناس بعدة ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلَّا بهذا الذي أكرمنا الله تعالى به ِ فإنما هي احدى الحسنيين أما ظهور وأما شهادة.» فسمعت الناس يضجون قائلين: «صدق والله بن رواحة.» فلا أظنهم بعد ذلك يستمدون أهل الحجاز.»
فقال جبلة: «وهل سمعت شيئًا من اهل القرى التي مرَّوا بها فلا بد من أنهم تعرَّضوا لهم وقطعوا أشجارهم وآذوهم.»
قال: «لم أَسمع منهم تشكيًا ولقد عجبت لحال هؤلاء الحجازيين فأنهم على فقرهم وما يظهر من ضنك أحوالهم لم يوذوا احدًا من أهل القرى إلَّا الذين اعترضوهم ولقد بتُ في دير بين عمان ومؤتة وسمعت حديث الرهبان بشأنهم فرأيتهم يثنون على حسن تصرُّفهم فقد مرُّوا بهم ولم يكلفوهم أمرًا غير ما احتاجوا إليه من ماء أو علف.»
فقال الحارث: «الظاهر أنهم يلتمسون ثقة الاهالى حتى لا يكونوا عونًا عليهم أَثناء الحرب.»
فقال الرسول: «لا أظن ذلك غرضهم ولكنني سمعت من رجل جالستهُ بالأمس فاتخذني صديقًا وقص عليَّ قصصًا كثيرة هو معجب بها عن النبي الذي قاموا بنصرتهِ وما قالهُ لي انهُ لما خرج لوداعهم في ثنية الوداع خارج يثرب وسلم الالوية إليهم أوصاهم قائلًا: «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرًا اغزوا باسم الله فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام وستجدون فيها رجالًا في الصوامع فلا تتعرَّضوا لهم ولا تقتلوا إمرأة ولا صغيرًا ولا بصيرًا فانيًا ولا تقطعوا شجرًا ولا تهدموا بناءً.».»
فأعجب الحارث وجبلة بهذه الأقوال ثم قال الاوَّل: «أَما وقد اقترب هؤُلاء من البلقاء فلنبعث إلى دمشق نستعجل الجند الرُّومي وليكن لقاؤُنا إياهم دفعة واحدة نصدهم ونعيدهم من حيث أَتوا.» فوافقهُ جبلة على ذلك ولكنهُ ما فتئَ يفكر في هند وحماد وما صدق أن عاد الحارث من عنده حتى ركب قاصدًا صرح الغدير لا يصحبهُ إلَّا فارسان فوصل القصر على غير انتظار فلما علمتُ سعدى بقدومهِ انشغل بالها ولكنها ما لبثت أن علمت بسبب مجيئهِ فخلا بها وأطلعها على ما تمَّ بينهُ وبين الحارث ثم قال: «وهل أَنت على ما علمت من أمر ذلك الشاب أَم تمكنتِ من تحويل هند عن عزمها فرجعت إلى صوابها.»
قالت: «قلت لك قبل الآن أن من يحاول تحويل هند عن حماد فانهُ يلتمس أمرًا مستحيلًا.»
فتنهد آسفًا لما فرط منهُ تلك الليلة من القبول بمشورة سعدى بشأن هند وحماد ثم قال: «فاليَّ بالحيلة التي وعدت بتدبيرها للتخلص من هذه الورطة.»