قرطا مارية
قالت: «أرى أن نطلب إليه شيئًا صعب المنال يقدمهُ مهرًا لهند فإذا لم يستطعهُ كان الجاني على نفسهِ وكنا براءً من لوم هند وقد كلمتها بهذا الشأن فرأَيت فيها ميلًا إلى ذلك فهي تحب أن تعلوا منزلة حماد في عيون أهلها فإذا اقترحنا عليهِ عملًا يعملهُ في سبيل الحصول عليها فانها تزداد افتخارًا بهِ كلما زاد ذلك العمل عظمًا وخطرًا.»
فقال: «وهل خاطبتها في ما هية ذلك الاقتراح.»
قالت: «كلَّا.»
فقال: «وهل عينتِ الاقتراح في ذهنك أَم أنت تنتظرين البحث في شأنهِ الآن.»
قالت: «أَظنني عينتهُ وسأَعرضهُ عليك لعلك تستحسنهُ والاَّ فإننا ننظر في سواه.»
قال: «وما هو قولي.»
قالت: «لا يخفى عليك أن جدتنا مارية بنت ظالم أخت هند الهنود إمرأة حجر آكل المرار الكندي هي جدة ملوك غسَّان كافة.»
قال: «نعم واعلم أنها صاحبة القرطين اللذين يضرب المثل بهما.»
قالت: «لقد نطقت بالصواب نعم اياها أعني فلا يخفى عليك أن قرطيها اللذين ذكرتهما لم يلبس ملوك الارض مثلهما لان فيهما درَّتين كبيضي حمام لم ير الناس مثلهما ولم يدروا ما قيمتهما.»
قال: «نعم إنهما ثمينتان.»
قالت: «أتدرى أين قرطاها الآن.»
فبهت جبلة مدة ثم قال: «نقل لي والدي عن جدي عمن قبلهُ أن جدتنا مارية أهدت قرطيها إلى الكعبة في مكة على سبيل النذر ويظهر أنها كانت وثنية ولولا ذلك لم تهد مثل هذه التحف إلى الكعبة.»
فقالت: «مهما يكن من أمرها فان قرطيها لا يزالان في الكعبة.»
قال: «نعم.»
قالت: «فأرى أن نقترح على حماد الإتيان بهما مهرًا لهند تلبسهما في زفافها فما قولك.»
فأعجب جبلة بذكاء سعدى وحسن اختيارها ودقة نظرها وتبسم وقد أَبرقت أسرتهُ كأَنهُ رأى باب الفرج قد فتح فقال: «بورك فيك ونعم الرأي رأيك انهُ اقتراح لا يتأَتى لبشر أن يأتي بمثلهِ لانهُ بعيد المنال وإذا فرضنا أن حمادًا استطاعه فانهُ يكون اهلًا لهند فلا نمنعهُ منها فهل تظنين هندًا توافقنا في ذلك.»
قالت: «لا أَظنها إلَّا موافقة إلَّا فيكون لنا عذر في رد حماد.»
قال: «ها قد تقرَّر الأمر فخاطبي هندًا بشأنهِ فإذا قبلت استدعي الشاب ونوبي عني في إبلاغه ذلك فإني في شاغل عن هذه الشؤُون بما نحن فيهِ من أمر الحرب المنتظرة.»
قالت: «حسنًا وخرجت.»
وكانت هند في أَثناء ذلك تمشي في الحديقة وقد علمت بمجيء والدها وتيقنت انهُ انما جاءَ لهذا الشأن وخصوصًا بعد أن رأَتهُ اختلى بوالدتها فلبثت تخطر في الحديقة وقلبها يخطر في صدرها وأفكارها تجول في ماذا عسى أن يقرَّ عليهِ القرار فلما رأَت والدتها خارجة أسرعت نحوها وهَّمت بالاستفهام فأَومأَت إليها أن تصبر ريثما يعود والدها فإنهُ سيسرع إلى البلقاء حالًا.
وسارت سعدى إلى الخدم فأَمرتهم بإعداد الطعام ثم خرج جبلة إلى الحديقة متظاهرًا بالبحث عن هند فلما لاقاها قبلها وسلم عليها وهو يهش لها وعلامات الانبساط بادية على وجههِ فتوسمت بذلك خيرًا فمشت معهُ وهو يسأَلها عن صحتها وحالها ويحادثها بشؤُون مختلفة إلَّا الاقتران فانهُ لم يذكره قط. أَما هي فقد منعها الحياء عن ذكره.
فبعد أن تناول جبلة الطعام ودَّع امرأَتهُ وابنتهُ وعاد إلى البلقاء ولم يكد يخرج من الحديقة حتى أَسرعت هند إلى والدتها تستطلعها الخبر.
فأَجابتها وهي تبتسم قائلة: «أُبشرك ببقاء والدك على عزمهِ فقد رد الحارث وابنهُ وقبل بحماد كما قلت لكِ ولكنهُ يرى وأرى أنا أيضا أن نقترح عليهِ عملًا يسد ما يتقولهُ الناس من غموض أَصلهِ وفصلهِ. فانهُ كما لا يخفى عليك بطل باسل لا يرى الواشي سبيلًا إلى الطعن فيهِ إلَّا من جهة نسبهِ فإذا عمل عملًا تفرَّد هو فيهِ كان ذلك داعيًا إلى رفع منزلتهِ وسكوت الناس عن الطعن في أصله.»
وكانت هند قد سمعت مثل ذلك من وَالدتها قبلًا فقالت: «إن ذلك يا أُماه مما يوجب لي الفخر أيضًا وأعلم أن حمادًا لا يتوقف في سبيل هند عن عمل يستطيعهُ الناس فهل قرَّ رأيكما على أقتراح تقترحا بهِ عليهِ.»
قالت: «لقد رأيت أن يكون في إقتراحنا ما يزيَّن بهِ رأسك فضلًا عن شرفك.»
قالت: «وما هو.»
قالت: «رأينا أن نطلب إليهِ الإتيان بقرطَي مارية من الكعبة.» وأحكت لها حكايتها.
فبهتت هند برهة وقد هالها ذلك الاقتراح ولكن انفتها منعتها من اكباره فقالت: «لا أظن حمادًا إلَّا فاعلًا ذلك بإذن الله.»
قالت: «هلمَّ بنا نستقدمهُ ونعرض عليهِ الأمر.»
فلما سمعت باستقدامهِ رقص قلبها فرحًا بلقياه وقالت: «استقدميهِ والإتكال على الله.» قالت ذلك وقد شغلها الفرح بقرب مشاهدتهِ عن تقدير تلك المهمة حق قدرها.
فنادت الخادم الذي رافق سلمان إلى مقر حمَّاد واوعزت إليهِ أن يستقدمهُ إلى الصرح.