حمَّاد وآمالهُ
تركنا حمادًا وسلمان يفكران في عبد الله وهما بين الرجاء والقنوط من أَمره فقضى سلمان أيامًا يتردد إلى البلقاء وبصرى للبحث عنهُ فلم يقف لهُ على خبر حتى ترجح لديهِ أخيرًا انهُ سافر إلى الحجاز.
وأما حماد فكان بين شاغلين عظيمين هند من جهة ووالده من جهة أخرى وكلما رأَى قادما ظنهُ رسولًا من هند جاءَ يستقدمهُ إليها أو شيئًا ينبئهُ بخبر والده.
حتى كان اليوم الذي تقرر فيهِ استقدامهُ واتفق انهُ أفاق في صباح ذلك اليوم منشرح الصدر واسع الآمال وكان قلما يصبح إلَّا منقبضًا كئيبًا لما يتوالى على ذهنهِ من المخاوف تارة على والده وطورًا على حبيبتهِ حتى اثر ذلك في صحتهِ فرقَّ جسمهُ قليلًا على انهُ كثيرًا ما كان يخرج للصيد أو نحوه لترويح النفس ولولا ذلك ما نجا من غائلة المرض.
فلما أصبح في ذلك اليوم على ما تقدم عجب واستبشر ولبث يتوقع خبرًا مفرحًا وكان سلمان قد خرج من الخيمة لبعض المهام وهو على غير ما كان عليهِ سيده من الانشراح والاستبشار ولكنهُ ما لبث أن رأَى فارسًا قادمًا مسرعًا فعلم من جهة مسيره انهُ يقصد مضربهم فتفرَّسهُ عن بعد فعلم انهُ من رجال صرح الغدير فتوسم بقدومهِ خيرًا فخف لملاقاتهِ فلما دنا منهُ عرفهُ ورآه يبتسم فعلم انهُ إنما جاءَ لبشرى خير وقبل أن يصل الفارس إلى سلمان ترجل ومشى وزمام الفرس بيده ومشى سلمان حتى التقيا فتصافحا وتعانقا فاستطلعهُ سلمان الخبر فقال: «جئت استقدم الأمير حمادًا إلى سيدتي الأميرة سعدى في صرح الغدير لأَنها تريد مخاطبتة في شأن.»
فقال سلمان: «وهل تدرى ما هو ذلك الشأن.» فضحك الخادم وقال: «لا أدري ولا بد من أن تكون اعلم مني بهِ وأما أهل القصر عندنا فقد لاحظوا من بعض ما سمعوه سرًّا وأدركوه ضمنًا أن مولاتنا هند ستُخطب وكلنا ننتظر ذلك اليوم فانهُ سيكون يومًا سعيدًا لم يرَ غسَّان اسعد منهُ لان مولانا جبلة كريم النفس سيخلع علينا خلعًا فاخرة وينثر علينا الذهب نثرًا.»
فتبسم سلمان وقال: «وهل علمتم من هو خطيبها.»
قال: «نعم هو ابن عمها ثعلبة إذ ليس من أبناء عمها من هو أَقرب منهُ إليها وقد طلبها ولكنني علمت من بعض الخدم أنها لا تحبهُ ولا تقبل بهِ.»
قال سلمان: «وهل يمكنها رفضهُ.»
قال: «لا أدري والظاهر أنها رفضتهُ.» وكان الخادم قد سمع بأَمر حماد ورغبة هند فيهِ ولكنهُ تجاهل لئلاَّ يقال انهُ باح بالسر وود أن يكون سلمان البادئ بالخبر.
وأما سلمان فلم يعد يستطيع صبرًا على كتمان هذه الأخبار عن سيده ولكنهُ أراد معرفه ما دعا إلى استقدام حماد فقال: «وهل سمعت أمرًا حدث قريبًا في القصر.»
قال: «لم اسمع شيئًا ولكنني رأَيت سيدي الأمير جبلة جاءَ بالأمس فمكث عندنا بضع ساعات قضاها في المسارَّة هو والأميرة ثم عاد إلى البلقاء وفي حال خروجه استقدمتني سيدتي وأنفذتني إليكم.»
فأدرك سلمان ان مجئَ جبلة لم يكن إلَّا لأمر الخطبة وترجح عنده انهُ رضي بحماد ولولا ذلك لم يكن ثمت داع لاستقدام حماد على اثر رجوعه حالًا فدخل على سيده وكان متكئًا على اثر عودتهِ من صيد قريب وقلبهُ يطفح سرورًا ودلائل الانبساط ظاهرة على وجههِ لسبب لا يعرفهُ احد فدخل عليهِ سلمان وحياه وهو يبتسم.
فقال لهُ: «ما وراؤُك يا سلمان أني أراك مبشرًا.»
قال: «عساها أن تكون بشرى خير يا سيدي.»
قال: «وما ذلك.»
قال: «أن أَهل صرح الغدير بعثوا يستقدمونك إليهم فهل تذهب أم أنت في شاغل الآن.» قال ذلك وهو يضحك.
فجلس حماد وهو يظنهُ مازحًا وقال: «لا أبالى دعاني أهل الصرح أم لا فإني أراني سعيدًا منذ فتحتَ عينيَّ في هذا الصباح.»
قال: «وما يضرك أن تتم سعادتك فان انشراح صدرك أن هو إلا فاتحة السعادة وهذا خادم القصر قد جاءَنا فهل ادخلهُ عليك لينبئك بمهمتهِ.»
فقال: «ليدخل.»
فدخل الفارس وهو لا يزال بلباس السفر فحيا الأمير وأنبأه بمهمتهِ فقال حماد: «هل فارقتهم جميعًا في خير.»
قال: «فارقتهم يدعون لسيدي الأمير بالصحة والعافية ويرجون لقاءَه قريبًا ليتم سرورهم برؤُيتهِ.» فاستبشر حماد بما وراء ذلك.
وقال: «أهدهم سلامي وقل إننا سنصبحهم غدًا إن شاءَ الله.»
فقبل الخادم يده وخرج فخرج سلمان لوداعه ودفع إليه عشرة دنانير وقال: «هذا ثمن عليق الفرس وسترى منا ما يشرح صدرك.» فسرَّ الخادم بالهدية وبالوعد وودَّ أن تتم خطبة هند لحماد لما ظهر من سخائهِ ورقة جانبهِ خلافًا لثعلبة فانهُ لم يكن احد من أَهل الصرح يحبهُ لعجرفتهِ وبخلهِ.
فلما سار الخادم عاد سلمان إلى حماد فرآه مطرقًا يفكر.
فقال: «ما بال سيدي يفكر ألعلهُ بغت لتلك الدعوة على غير انتظار.»
قال: «كلاَّ يا سلمان فقد كنت أتوقع خبرًا مفرحًا منذ الصباح ولكنني أفكر في والدي ومكانهِ فانهُ طالما تمنى أن يزوجني ويفرح بي وقد كان يجب أن يسير هو معنا في هذه المهمة. ولكن من ينبئنا بمكانهِ.»
فقال سلمان: «دع عنك الهواجس يا مولاي فقد تقرر في ذهني أن سيدي سار إلى الحجاز ومتى فرغنا من مهمتنا هذه اذهب إليهِ بنفسي ولا أزال ابحث عنهُ حتى آتي بهِ بإذن الله فلنستعد الآن للذهاب إلى صرح الغدير.»
قال: «أَرى أن نبرح هذا المكان قبل الفجر حتى نصبح في الصرح كما قلنا للخادم.»
قال: «حسنًا» وأخذا في الاستعداد وحماد كلما تصوَّر ملاقاتهُ هندًا خفق قلبهُ وهالهُ الموقف وتذكر اجتماعه بها في دير بحيراء. ولكن سروره لم يكن تامًا مخافة أن لا تكون دعوتهُ على ما يؤَملهُ من الفوز بما يتمناه ولكن الأمل غلب عليهِ فتصور انهُ انما دعي لإتمام عقد الخطبة فقضى بقية ذلك اليوم في مثل هذه الأفكار.