ساعة اللقاء
أَما هند فلما عاد الرسول وأنبأها بمجيء حماد في صباح الغد خفق قلبها ولبثت تعد الساعات والدقائق فقضت ذلك اليوم ولم تنم من شدة الفرح فلما أصبحت سارت إلى والدتها وسأَلتها عن المكان الذي سيجتمعون فيهِ فقالت: «قد أمرت الخدم أن يعدوا غرفة الضيافة ولا يدخلوا إليها أحدًا في هذا اليوم وان يذبحوا الذبائح ويمدوا الأسمطة.» فلبست هند ثوبًا سماويًا جميلًا خاطتهُ لها إحدى خياطات دمشق وكانت قد خبأَتهُ لمثل ذلك اليوم ومشطت شعرها وضفرتهُ وجعلت تتشاغل ببعض المهام إخفاءً لما ثار في قلبها من الفواعل المتضاربة بين الفرح بلقيا حبيبها وهول موقفها ساعة اللقاء وخوفها عليهِ مما أعدوه لهُ من أمر الكعبة.
وكانت سعدى قد أنفذت جماعة من أَهل القصر لاستقبال القادمين قبل وصولهم فلما كان الضحى ودنا الوقت جعلت هند تطل من النوافذ تنظر إلى ساحة الميدان التي جرى فيها السباق منذ بضعة أَشهر ووراءَها الآكام والغياص وكلما رأَت غبارًا أو آنست أشباحًا ظنت حمادًا قادمًا فيخفق قلبها وتتورد وجنتاها حتى كانت الظهيرة فإذا بالغبار يتصاعد من بعض جوانب الأفق ثم بان من تحتهِ فرسان يسرعون وفى مقدمتهم فارس عرفت انهُ من أَهل القصر وانهُ تقدم الجماعة ليبشر بقدومهم فازداد خفقان قلبها ثم شاهدت الفرسان يقتربون ويتقدمهم حبيبها حماد ملثمًا بالكوفية فانكرتهُ في بادئ الرأي لركوبهِ فرسًا غير فرسهِ. ثم غلب عليها الضعف النسائى فاصطكت ركبتاها واستعظمت ساعة اللقاء فتحولت عن النافذة ولكنها ما انفكت تنظر إليهِ خلسة حتى دنا من القصر وكانت والدتها واقفة إلى جانبها وقد لحظت ما هي فيهِ من الهيام فقالت لها: «امكثي هنا ريثما استقدمك إلى دار الضيافة.»
وخرجت إلى الحديقة وقد ترجل الفرسان وتركوا خيولهم في عهدة الخدم ودخلوا الحديقة وفي جملتهم حماد ملثمًا بعباءَتهِ وقد حوَّل أذيال كوفيتهِ عن وجههِ وأرسلها إلى كتفيهِ فبانت ملامح محياه وتقدم وسلمان إلى جانبهِ حتى دنوا من سعدى فتقدم سلمان إليها واخبره أنها هي الأميرة سعدى امرأَة الملك جبلة فعلم أنها والدة هند فسلَّم عليها وهو يتوقع أن يرى هندًا فلم يرها فعلم أن الحياءَ منعها من القدوم للقائهِ وإنها لا تلبث أن تأتي.
فاستقبلتهما سعدى وسارت بهما إلى غرفة الضيافة فجلسوا والخدم وقوف بين أيديهم فقالت سعدى: «هل يأذن الأمير بماءٍ ليغتسل ويبدَّل ثياب السفر قبل تناول الطعام.» فأجاب وغسل يديهِ ووجههُ وجاءَهُ سلمان برداء حريري وكوفية فلبسهما وجلس وعيناه شائعتان نحو الباب وكلما سمع وقع أقدام أو رأَى شبحًا ظنهُ هندًا قادمة.
أَما سلمان فانهُ ترك سعدى وحمادًا في الغرفة وخرج يبحث عن هند وكان قد عرف غرفتها في مجيئهِ إليهم قبلًا كما علمت فإذا هي واقفة هناك تتلاهى بالأساور تديرها حول معصمها وأفكارها تائهة وقد علت وجهها أمارات البغتة فلما رآها تظاهر بالسعال ليستلفت انتباهها وقد كانت لعظم تأَثرها لا تمرُّ نسمة إلَّا سمعت لها صوتًا فكيف بسعال سلمان فانهُ ذعرها فإلتفتت إليه فرأَتهُ يبتسم فابتسمت ولكنها شعرت بقشعريرة خفيفة ثم مشت وهي تحاول إخفاء ما بها فتقدم نحوها وهو يحاذر أن يدخل الغرفة لئلًا يكون دخوله مخالفًا لمقتضيات العادة فمشت هي نحوه وسلمت عليهِ.
فقال: «هل رضيت مولاتي عن راهب الدير جامع البذور.»
فتبسمت ولم تجب.
فقال: «ها قد جئتك باللص الذي سرق الدرع فهل تريدين مقاصتهُ ولكنني أرجو أن لا تحكمى عليهِ بالسجن.»
فتذكرت زيارتهُ إياها بثياب الرهبان فضحكت ولكنها ما زالت تنظر إلى معصمها وتتلاهى بأساورها.
فدنا منها وقال: «ما بالك لا تتكلمين يا مولاتي أَلعلي أَذنبت لأني تركت صاحب الدرع (أو لصهُ كما تزعمين) وجئت وحدي. فهل استدعيهِ إليك.»
فلم تجب ولكنهُ كان يقرأ آيات السرور على وجهها.
فقال: «أراك تتظاهرين بان مجيئهُ لا يهمك ولكني اقرأ على وجهك عبارة يكاد ينطق بها لسانك فقد فهمت مرادك بدون أن تتكلمي فها أني ذاهب لأدعو الرجل إليك.» فرفعت نظرها إليهِ كأنها تلومهُ على هذه المداعبة أَما هو فتحوَّل عنها ضاحكًا حتى دخل غرفة الضيافة فرأَى سعدى وحمادًا جالسين وليس في الغرفة سواهما فدنا من سعدى وقال وهو يتظاهر بالمزاح: «ما بالى أرى هذه الغرفة قليلة النور كأَنها بعيدة عن موقع أَشعه الشمس.»
فقالت سعدى: «أَلا ترى الأشعة داخلة من هذه النافذة.»
قال وهو يضحك: «لا أَرى نورًا قط ويظهر لي أن شمسكم تشرق من الجنوب.» (وأشار إلى غرفة هند) فأدركت سعدى مراده فتبسمت واطرق حماد خجلًا ولكنهُ ودَّ أن يلح سلمان باستقدام هند.
فقال سلمان: «أَراكم تضحكون من كلامي وأراني اعلم منكم بمشرق شمس قصركم. أَلا أَذنت مولاتي بقدوم شمس هذا القصر بل شمس بني غسَّان إلينا … فإني أَرى الأسمطة قد مدت وكأَني بكم تتهيأون للغداء ولكن الطعام حرام علينا قبل مجيء سيدتي هند فإنها محور انسنا ولا أَظنك تنكرين علينا ذلك.»
فقالت سعدى: «أراك لجوجًا يا سلمان ولا مأرب لك في الأمر.»
فضحك سلمان وقال: «لا مأرب لي صدقتِ لا مأرب لي ولكنني أعبر عن عواطف أناس آخرين.» وأشار بطرف عينيهِ إلى حماد فتبسم حماد وقد توردت وجنتاه ونظر إلى سلمان نظرة التوبيخ.
فإلتفت إليه سلمان وقال: «يظهر أنك لا تريد مقابلة فتاة غسَّان فإذا كان هذا هو مرادك (أستغفر الله) مما كان أغنانا عن تكبد هذه المشاق وهجرنا الحيرة والعراق.»
فنظرت سعدى إلى سلمان والرزانة والتعقل يتدفقان من وجهها وقالت: «لم ندعُ ولدنا حمادًا إلَّا ليرى هندًا وتراه فإنها ولدانا ولا نجهل أنهما يسرَّان بالمقابلة فلا تكن عجولًا أن هندًا لا تلبث أن تأتى وتتناول الغداء معنا.»
ثم وقفت وقالت: «وها أني ذاهبة لاستقدامها.» وخرجت.
فلما خرجت إلتفت حماد إلى سلمان واراد معاتبتهُ لما أبداه من الجرأة في خطاب الأميرة سعدى.
فقال: «ولولا ذلك لطال زمن الوحدة أَلعلنا جئنا لنأكل ونشرب.»
ثم عاد حماد إلى الأفكار في هند وقرب مجيئها وما سيكون من أمرها ساعة اللقاء فما لبث أن سمع وقع أقدام علم من ازدواجها أن سعدى وهندًا قادمتان فتحفز للقيام أَما سلمان فوقف بالباب فرآهما قادمتين فتبسم ونظر إلى حماد.
ثم وصلتا إلى باب الغرفة فدخلت سعدى وهند تتبعها مطرقة.
فوقف حماد ومشى لاستقبالها وهو مطرق أيضًا ولكنهُ لم يتجرأ على مصافحتها ولا هي فعلت ولكن قلباهما كانا ولا ريب يختلجان فرحًا وكل منهما يتظاهر بالتجلد فتشاغل هو بإصلاح ردائهِ وإرسال كوفيتهِ إلى كتفهِ وتلاهت هي بإصلاح قرطها في أذنها ولا تسل عن تورد وجنتيها واصطكاك ركبتيها واختلاج قلبها. وحالما دخلت أشارت إليها والدتها أن تجلس على وسادة بالقرب منها فجلست وجلس الجميع ولبثوا برهة لا يتكلمون وحماد ينظر إلى هند محاذرًا فرآها قد تغير حالها عما كانت عليهِ يوم دير بحيراء فذبل ورد وجنتيها وخف عضلها ولكنهُ رأى ذلك قد زادها جمالًا وهيبة وكانت هي تختلس النظر إليه ولا تكاد تصدق أن والدها رضي لها بهِ ثم يعترضها أمر قرطي ماريا فتوجس خيفة.
ففتحت سعدى الكلام قائلة: «وماذا تمَّ من أمر والدك هل التقيتم بهِ أم عرفتم مقره.»
فقال حماد: «كلاَّ يا مولاتي فقد شغل بالنا تأَخره ولم ندع مكانًا لم نسأل فيهِ عنهُ والفضل في هذا السعي كلهِ لهذا الرفيق (وأشار إلى سلمان) فانهُ لم يأل جهدًا في البحث والاستطلاع فلم نقف على خبر يقين.»
فقال سلمان: «ولكنني أرجح ذهابهُ إلى الحجاز لما سمعت من حكاية صاحب الخان.» وأخذ يقص عليهم ما سمعهُ من الخاناتى في بيت المقدس وما كان من أمر أبي سفيان وجواد حماد الخ.
فاستفهمتهُ عن حكاية الأسد فقص عليهم ما لقوه في مسبعة الزرقاء وكانت هند في أَثناء الحديث شاخصة حتى سمعت ما لاقياه عند تلك الشجرة من غائلة الأسد وما كانا فيهِ من الخطر فتلألأت الدموع في عينيها فلما رأى حماد منها ذلك أوشك أن يبكي لفرط ما آنس من رقة عواطفها. ثم أتمَّ سلمان حكايتهُ حتى انتهى إلى آخرها والجميع مصغون لا يفوه أحدهم بكلمة.
فلما فرغ من كلامهِ قالت سعدى: «يؤخذ من مجمل ما سمعناه أن والدكم سافر إلى الحجاز مع أبي سفيان ولو كان باقيًا في البلقاء لجاءَ للبحث عنكم بعد أن نال العفو الإمبراطوري.» ثم تبسمت وسكتت كأَن في نفسها شيئًا تكتمهُ فبقى الجميع صامتين لعلها تقول شيئا وفيما هم في ذلك دخل بعض الخدم وسأَل الأميرة سعدى إذا كانت تأذن بمد السماط لأن وقت الغداء قد أزف فقالت: «هاتوا الطعام.» وإلتفتت إلى حماد قائلة: «هلم بنا إلى الغداء وسنتم حديثنا بعده.»
فمدت الأسمطة وحملت الذبائح وجلسوا على المائدة وحماد يفكر في ماذا عسى أن يكون وراء تبسم سعدى.
فلما فرغوا من الطعام عادوا إلى الاستراحة وجلسوا ينتظرون حديث سعدى إلَّا هندًا فإنها لم تكن معهم لأن والدتها أشارت إليها أن تتخلف هنيهة ريثما يتحادثون في شأنها.
فلما استتب بهم الجلوس قالت سعدى: «أَظنكم تنتظرون مني كلامًا ظهر لكم من تبسمي الآن أني أكتمهُ.»
فقال حماد: «هو ذلك يا مولاتي فأتحفينا بهِ.»
قالت: «تبسمتُ لما اتفق من ذهاب والدكم إلى الحجاز وما نحن عازمون أن نعرضهُ عليكم مما يأول إلى اجتماعكم بهِ هناك.»
فعجب حماد لكلامها ولم يفقه مرادها فقال: «وماذا عسى أن يكون اقتراحكم.»
قالت: «لا يخفى على ولدنا حماد أن ما عرفناه من شهامتهِ وكرم أخلاقهِ يكفى لاقتناعنا باستحقاقهِ هندًا وأنهُ جدير بالحصول عليها دون ابن عمها. ولكننا معاشر العرب نحافظ على الأنساب ونحترم القرابة ولا يخلو أن يكون قد بلغكم أن الحارث بن أبي شمر قد طلب هندًا لابنهِ ثعلبة وهو ابن عمها وأولى الناس بها ولكننا أثرنا البقاء على ما أرادتهُ هند ورضينا بحماد لما آنسنا فيهِ من كرم الأخلاق وعلوَّ الهمة وعدلنا عن ثعلبة على كونهِ ابن عمها.»
فخجل حماد لهذا الإطناب واختلج قلبهُ فرحًا لما توسمهُ من رجوع الأمر إليهِ وتحقق أمانيهِ فأطرق صامتًا.
فقالت سعدى: «ولكن والدها رأَى رأيًا إذا وافق عليهِ حماد كان فيهِ دفع لتقوُّل الناس وعتاب الأقارب وفخرٌ لنا جميعًا.»
قال حماد: «مري يا مولاتي أني رهين إشارتك.»
قالت: «رأَينا أن تعمل عملًا نقترحهُ عليك لا يعظم على باسل نظيرك فإذا فعلتهُ قطعت ألسنة المعترضين وزدتنا إعجابًا وفخرًا.»
فثارت الحمية في نفس حماد فقال: «قولي يا سيدتي أني فاعل ما تقولين وهل يثقل عليَّ أمر ترضى بهِ هند.»
قالت: «نقترح عليك أن تلبس هندًا يوم زفافها قرطين فيهما لؤلؤتان كل لؤلؤة منهما قدر بيض الحمام.»
فقال: «ألعلك تعنين قرطيَّ مارية.»
قالت: «إياهما أعني وهل تدري مكانهما.»
قال: «سمعت أن ماريا جدتكم أهدتهما إلى الكعبة منذ أجيال فهل هما باقيان هناك حتى الآن.»
قالت: «أظنهما لا يزالان هناك وفي استخراجهما من جوف الكعبة بسالة واقتدار جديران بكم.»
فلما سمع سلمان ذلك اضطرب فؤَاده خوفًا على سيده لعلمهِ أن الكعبة أمنع من عقاب الجو قد يستحيل الوصول إليها.
فقال: «هل تأذن سيدتي بكلمة أقولها.»
قالت: «تفضَّل.»
فقال: «هل تريدين أن تلبس مولاتي هندًا قرطي مارية عينهما أم قرطين آخرين مثلهما.»
قالت: «لا نلتمس شيئًا يقدَّر بالمال يا سلمان فإننا من نعم الله في سعة وبسطة عيش ولكننا نريد أن نفاخر أعمامنا بأننا لم نرض لهند إلَّا رجلًا استخرج قرطي مارية من جوف الكعبة وهذا ما أضحكني لما سمعت حكاية الأمير عبد الله وذهابهِ إلى الحجاز فقلت في نفسي أن الله قد أذن بذهاب حماد ليلتقي بأبيهِ هناك لأن مقام أبي سفيان في مكة حيث الكعبة أيضًا.»
فإلتفت حماد إلى سعدى وملامح البسالة تتجلى في وجههِ وقال: «لقد طلبت أمرًا يحقر كثيرًا في سبيل مرضاة هند ولسوف ترين منا فوق ذلك بإذن الله.» وأما سلمان فانهُ استعظم الطلب ولكنهُ لبث صامتًا احترامًا لمقال سيدهِ.
أَما هند فإنها كانت جالسة في غرفتها وهي تعلم بما ستقولهُ والدتها فلما تصوَّرت الخطر المحدق بهذه المهمة ندمت لمجاراة والديها في ذلك وأدركت أنهما إنما دبَّرا حيلة للتخلص منهُ فعظم الأمر عليها حتى بكت.
وفيما هي في ذلك دخلت الخادمة تدعوها إلى والدتها فمسحت دموعها وسارت والكآبة ظاهرة على وجهها فلما دخلت الغرفة ورآها حماد على تلك الحال أثر منظرها في نفسهِ وهاجت فيهِ حمية الرجال وقد أدرك أنها انما تبكى جزعًا عليهِ فقال لها: «لا تجزعي يا هند انك ستلبسين قرطي مارية وتفاخرين بهما أهل الخافقين.»
فصمتت هند ولم تجب ولكن كلام حماد أَثار فيها ساكن الغرام وهاج عواطفها فازدادت إعجابًا بشهامتهِ وحبهِ على أن خوفها عليهِ اعترض مجرى عواطفها فهبت الحرارة في جسمها كأنك كشفت الغطاء عن نار متقدة في فؤَادها فانبعث لهيبها إلى سائر أطراف البدن وتلألأت الدموع في عينيها فأطرقت وجعلت تتلاهى بتثنية أطراف أكمامها مخافة أن يظهر اضطرابها لحماد.
أَما هو فلم يفتهُ حديث قلبها ولا غفل عما تضارب في ذهنها من العوامل ولكنهُ أراد تشجيعها فإلتفت إلى والدتها وقال: «طالما ساقني المسير إلى الكعبة لمشاهدة ما أسمعهُ عنها من حج الناس إليها من أقطار العالم وكثيرًا ما سمعت حديث والدي عن الأصنام القائمة فيها وما يقدمهُ لها العرب من الضحايا وقد قرأت في بعض الكتب أنها قديمة البناء جدًّا وأنها كانت حجًا يأمهُ الناس من أطراف الأرض وقد بنيت في بادئ الرأي لعبادة الله ثم جعلها بعض العرب مجمعًا لأوثان حملوها إليها من أنحاء شتى من العالم الوثني وفى جملة ذلك صنم حملوهُ إليها من هذه البلاد (البلقاء) اسمهُ هبل وكان قبل أن حملوهُ إليها من البقاء يسمى (هبعل) وهو لفظ عبراني معناه البعل أي الإله يشبهههُ في لغة الكلدان جيراننا بالعراق لفظ (بِل) وقد حملوا إليها أصنامًا أخرى من مصر وأشور وغيرهما فاجتمعت فيها مئات منها فأصبح ذلك البيت مجمعًا للأصنام.»
فانتبه سلمان وكان تائهًا في بحار الهواجس خوفًا على سيده فلما وصل حماد إلى حكايات أصنام الكعبة قال سلمان: «نعم أن الأصنام كثيرة في الكعبة ولكن كثيرين من عقلاءِ قريش لا يحترمونها وقد سمعت كثيرًا منهم يخاطب سيدي الأمير عبد الله في بعض سفراتنا إلى مكة بشأن تلك الأصنام فأكَّد لهُ أن جماعة كبيرة من عقلاء مكة وهم من قريش إنما يزورون الكعبة لعبادة الله وإن الاعتقاد بالله قد اتصل إليهم بالتلقين من سيدنا إبراهيم ولكن بعضهم ضلَّ عن سواء السبيل بما زيّن لهم من عبادة الأوثان.»
فقالت سعدى ووجهت خطابها إلى حماد: «يظهر أن والدكم الأمير قد سافر إلى الحجاز قبل الآن.»
قال: «نعم يا مولاتي انهُ نزلها مرارًا ولذلك ظننا أنهُ سار إليها هذه المرة أيضًا.»
فقالت: «أن ذلك لما يؤَكد ذهابه إليها الآن فعسى أن تلتقوا بهِ هناك.»
قال: «أني أرجو ذلك وأتمناه لتتم بهِ سعادتي.» ثم فكر قليلًا وقال: «متى تظنين يا مولاتي أننا سنبرح البلقاء.»
قالت: «متى شئتم وخير البر عاجلهُ.»
قال: «أرى أن نودع سيدي الملك جبلة قبل السفر فنلتمس دعاءَه بالتوفيق.»
قالت: «ذلك راجع إليك أما هو فقد فوض الينا أن نبلغك رضاءَه وما تمَّ عليهِ الاتفاق فإذا شئت مقابلتهُ فلا شك أنهُ يسرُّ بلقياك.»
كل ذلك وهند مطرقة وعيناها تكادان تدمعان لو لم يشغلها حديث الكعبة فلما تحوَّل الحديث إلى والدها استحسنت رأى حماد في زيارتهِ على أمل أن يتحول عزم والدها عن اقتراحهِ. فقالت: « تفعل حسنًا بزيارة والدي قبل سفرك.»
فازداد حماد رغبة في ذلك فقال: «غدًا نصابح مجلس الملك أن شاء الله فنسلم عليهِ ونودعهُ. هل تعرف الطريق إلى البلقاء يا سلمان.»
فقالت سعدى: «سنرسل رجالًا يسيرون في ركابكم إليها.»
أما سلمان فما أنفك منقبض النفس من أمر هذه المهمة لعلمهِ أنها شديدة الخطر جدًّا ولكنهُ سلم أمره إلى الله.
وقضوا بقية اليوم في صرح الغدير ولكن هندًا لم تهنأ بذلك الاجتماع لخوفها من الفراق العاجل وقرب الخطر الشديد على أنها شغلت بحديث حبيبها ولهت برؤيتهِ عن كل المخاوف فلم يكن يوم أسعد عليها من ذلك اليوم وودت لو أنهُ يوم يشوع بن نون خوفًا من انقضائهِ ولا تسل عن حماد وسروره وقد سهل عليهِ المسير إلى الكعبة أملهُ بلقاء والده هناك.