هند في غرفتها
أما هند فدخلت القصر فلاقتها والدتها وكانت شديدة الولع بها لأنها رزقت أولادًا كثيرين لم تهنأ منهم بسواها فقبلتها وصعدت بها إلى طابق علوي ودخلت بها الغرفة وأمرت الخدم فأعدوا لها الفراش ثم جاءتها الماشطة بثياب النوم فنزعت حليها وألبستها جلبابًا واسعًا من الحرير الناعم الشفاف ثم حلت خصلة شعرها ونزعت ما في ضفائرها وعلى صدرها وفى أذنيها ومعصميها من الحلي واستخرجت خلاخلها واعدت لها السرير وهو من خشب الأرز في أجمل ما صنع الصانعون عليهِ الوسائد الحريرية الملوَّنة غطاؤُها من أبدع أنواع النسيج صنع القسطنطينية وكان في الغرفة مشمعة فيها بضع عشرة شمعة تفوح منها رائحة العنبر فقد كان من ضروب البذخ عندهم أن يمزجوا الشمع بشيء من الأطياب فإذا أنير تصاعدت عند إحراقه رائحة الطيب وكان في جدران الغرفة صور جميلة أكثرها من رسوم القديسين صنع بيت المقدس كصورة ولادة المسيح وصلبهِ وصعوده وكلها متقنة التصوير ملوَّنة بألوان طبيعية وفى بعض جدران الغرفة مرآة هي عبارة عن صفيحة مستديرة من الفضة مصقولة صقلًا خصوصيًا حتى صارت كالزجاج تعكس النور وترى الأشباح كمرآة هذه الأيام لأن الناس لم يكونوا يعرفون المرآة الزجاجية بعد.
فبعد أن لبست هند جلبابها وقفت أمام المرآة فأصلحت شعرها وثوبها وذهبت إلى السرير فجلست عليهِ وهي إلى تلك الساعة لم تنبس ببنت شفة وكانت والدتها منذ دخلتا الغرفة جالسة على وسادة تتأَمل بجمال ابنتها وقوامها وبما وهبتها العناية من الصحة والعقل وفي نفسها شيء تنتظر فرصة لتبوح بهِ وكانت هند أثناءَ تبديلها ثيابها غارقة في بحار الأفكار تراجع ما مرّ بها في ذلك النهار من الغرائب وكلما تذكرت حمادًا وسبقهُ لثعلبة وما أظهره هذا من الحسد وما أدعاه من الفروسية وكيف أنهُ عاد فشلًا ازدادت احتقارًا لهُ ونفورًا منهُ وحبًا لحماد ولكنها كانت مع ذلك شديدة الحرص على منزلة والدها وشرف قبيلتها وخافت أن يتعلق قلبها بحماد ثم تجد أنهُ من أصل دنيء فيحول ذلك دون إرضاء والدها وسائر أهلها فتقع في الشقاء وكانت كلما تصوَّرت ذلك اقشعرَّ جسمها فتعلل نفسها بأن من كان في مثل هذه الشهامة وهذه الأخلاق مع ما يتجلى في وجههِ من الهيبة والوقار لا يمكن أن يكون دنيء الأصل ثم تعد نفسها بكشف حقيقة حالهِ عندما يلتقيان في دير بحيراء.
وكانت والدتها واسمها سعدى في الخامسة والأربعين من عمرها لا يزال الجمال ظاهرًا في وجهها فقد كانت من أجمل بنات غسَّان وكثيرًا ما تغزَّل بها شعراؤهم ولما تزوجها جبلة حسده كل أهل عشيرتهِ عليها.
ثم جلست هند إلى السرير بجلبابها وقد أرخت شعرها وحسرت عن زنديها وكانا مستديرين ممتلئتين مشرقين يزينهما الوشم على اليمين منهما صورة الصليب وعليهِ السيد المسيح مصلوبًا وعلى اليسار صورة مريم العذراء تحمل طفلها. ولو رآها حماد في تلك الحال لنطق بقول الشاعر:
فاتكأَت إلى وسادة من ريش النعام أَهدتها إياها إمرأة والي دمشق وألقت رأسها على كفها إلتماسًا للراحة وقد ضايقها الجلوس معتدلة بين الرجال طول ذلك النهار فلبثت صامتة لا تتكلم وأفكارها تائهة فتذكرت القصبة التي سلمها إليها حماد عند سبقهِ الأخير وكيف أنها مبرية مع ما لحظت على وجه ثعلبة من دلائل السوء والحقد فارتابت في أمره وودت السؤال عن سبب ذلك فمنعها حماد كما تقدم.
ثم ابتدأت والدتها بالحديث قائلة: «لماذا لم تنزلي اليوم للسباق يا هند.»
قالت: «لم أرَ مسوغًا لأن الفرسان كانوا كثيرين وطال الجدال بين المتسابقين حتى غابت الشمس فلم يبق وقت لركوبي.»
قالت: «وما الذي دعا إلى هذا الجدال.»
قالت: «بعد أن تمَّ السباق أراد ثعلبة مسابقة السابق فعاد فشلًا فزادنا خجلًا.»
فتبسمت سعدى تبسمًا خفيًا وقالت: «رأَيت الفرسان عديدين فمن نال قصب السبق منهم.» قالت وقد أبرقت أسرتها رغمًا عنها: «نالهُ شاب غريب اسمهُ حماد لا يعرف أحد حسبهُ فشق ذلك على والدي وابن عمي إذ لا يليق أن يكون السباق في حمانا ويفوز بقصب السبق غريب.»
قالت: «ومن هما الفارسان اللذان تسابقا آخر النهار.»
قالت: «هما ابن عمي ثعلبة وحماد.»
قالت: «رأَيتهما عادا مرَّتين.»
قالت: «تسابقا أولًا فسبق حماد فأنكر ثعلبة ذلك على نفسهِ ونسب السبق إلى الفرس فتنازل لهُ حماد عن فرسهِ وركب هو فرس ثعلبة ويا ليتنا بقينا على العار الأوَّل لأَن ثعلبة عاد مخزولًا هذه المرة أيضًا ومما استغربتهُ أن حمادًا جاءَ بالقصبة مبتورة كأَنها ضربت بسيف.»
فضحكت سعدى وقالت: «أَلم يخبركم بسبب بريها» قالت: «لا وكنت عازمة على البحث عن سبب ذلك فرأَيت حمادًا لا يريد فكففت.»
فقالت: «بورك فيهِ انهُ بالحقيقة شهم كريم الأخلاق ولا ريب عندي في أنهُ رفيع النسب.»
فطربت هند لامتداح والدتها حمادًا وقالت: «ما معنى ذلك يا أُمَّاه هل تعلمين من أمر هذه القصبة شيئًا.»
فهمست في أُذنها قائلة: «نعم أعلم يا هند أن تلك القصبة قد قطعت بسيف ابن عمك ثعلبة.» فبغتت هند واشتاقت إلى معرفة تفصيل الخبر فاعتدلت على سريرها وقالت: «كيف وقع ذلك.»
قالت: «إن ابن عمك كان عازمًا على الفتك بذلك الشاب سامحهُ الله ووالله لو فعل ذلك لألبسنا عارًا لا تمحوه الأيام.»
فازدادت هند استغرابًا وقالت لها: «وما أدراك بذلك يا أُماه.»
قالت: «رأيتهما رأى العين.»
فقالت: «وكيف تيسر لك رؤُيتهما ونحن أقرب إليهما منك ولم نرَهما.»
قالت: «تمهلي لأَقص عليك الواقع.» فأصغت هند بكل جوارحها فنهضت سعدى إلى الباب فأغلقتهُ وجلست تقص الخبر وتحاذر أن يسمعها أحد فقالت: «لما خرجتم جميعًا إلى الخيام وخرج أكثر من في القصر إليكم بقيت أنا وسليمة المولدة وبعض الخدم وكنا نرى المتسابقين يبدأُون بالشوط ولكننا لا نرى آخره فخرجنا وفى نفسي أن أرى حلبة السباق وكيف يقتلع السابق القصبة فانهُ منظر يفرح القلب إذ ليس ألذُّ من النصر. فخرجنا من بعض أبواب الحديقة إلى البساتين المجاورة ومررنا بضفة الغدير لا يرانا أحد حتى وصلنا إلى مكان تحت شجرة أشرفنا منهُ على حلبة السباق ونحن على مرمى حجر منها نَرى ولا نُرى فلما كان السباق الأخير شاهدت ابن عمك متأخرًا عن حماد لا لعجز فرسهِ لأننا رأينا الفرس يستحث فارسهُ ليطلق لهُ العنان وهو يمسكهُ كأنهُ خاف الوقوع عن ظهره ولولا ذلك لكان هو السابق والسبق في الميدان للأفراس إذا أحسن فرسانها ركوبها واستطاعوا الثبات على ظهورها فخوف ثعلبة الوقوع عن فرس حماد أكثر عارًا عليهِ من تأخره عنهُ أَما حماد فأطلق لفرسهِ العنان وكان يستقبل عرض الفلاة كما تستقبل الأم رضيعها حتى وصل إلى القصبة وفيما هو يقتلعها رأَينا ثعلبة هاجمًا عليهِ وقد شهر سيفهُ وهمَّ بقتلهِ فاستلقى حماد السيف بالقصبة فقطعت ثم رأَينا حمادًا اقتلع ثعلبة من صهوة جواده ورمى بهِ الأرض وجثا على صدره فخفنا أن يقتلهُ ثم سمعنا ثعلبة يستجير به ويستعطفهُ فنهض عنهُ وتصافحا وتعانقا وعادا.»
فما أتمت سعدى حديثها حتى اختلج قلب هند إعجابًا بشهامة حماد وازدادت احتقارًا لثعلبة وقالت لوالدتها: «أهذا هو ثعلبة بن الحارث أيليق بغسَّان أن يكون ابن ملكها خسيسًا إلى هذا الحد أَيليق بهِ أن يغدر بشاب في ريعان الشباب ولا ذنب لهُ إلاَّ أنهُ أفرس منهُ وزد على ذلك أنهُ نزيل في بلادنا ولهُ علينا حق الجوار.»
فرأَت والدتها في كلامها حقا ولكنها لم تشأ أن تمكن البغض في قلبها وحسبت بنفسها ألف حساب من جملتها أن ثعلبة أرفع بني غسَّان مقامًا وليس أقرب منهُ للزواج بهند ولعل جبلة يرغب في ذلك فإذا نفرت منهُ كان نفورها سببًا لتنغيص عيش ابنتها فقالت لها: «لا بد لنا من تأنيبهِ ولومهِ حتى يرجع إلى الأخلق بهِ وبمن كان في مقامهِ ونسبهِ.»
فسكتت هند لا عن اقتناع ولكنها صبرت نفسها لترى ما يكون من أمر حماد غدًا وهي تعلم أن ذهابها إلى الدير قد لا يتيسر بغير والدتها فلا يخلو أن تلحظ أم اجتماعها بحماد فماذا تقول لها لو سأَلتها عنهُ وتعلم أيضًا أن والدتها حادة الذهن سريعة الخاطر دقيقة الملاحظة ففكرت في الأمر قليلًا فرأَت أن لا بد لها من استطلاع والدتها والاستعانة بها على نيل حماد وقد ارتاحت إلى هذا الرأي لما عاينت من إنصاف والدتها وامتداحها شهامتهُ ولكنها ودَّت قبل كل شيء أن تجتمع بهِ على انفراد لتطلع منهُ على حقيقة حالهِ وتستطلع أفكاره ثم تطلع والدتها على الأمر بالأسلوب الذي تختاره.
فقالت لها: «مضت على مدة طويلة يا أُماه وقد نذرت نذرًا لدير بحيراء لم أفهِ بعد ويلوح لي أن ما رأَيناه في هذا النهار من السوء إنما كان لتأَخرنا عن وفاء النذر.»
قالت: «لعلهُ كذلك فإن لهذا الدير كرامات كثيرة ولا صبر لهُ على تأجيل النذور فأسرعي في إيفائه.» قالت: «أرى أن أذهب إليه غدًا إن شاء الله.»
قالت: «ولكننى لا أستطيع الذهاب معك في الغد لأني ذاهبة مع والدك إلى البلقاء فإذا أجلتِ الذهاب إلى بضعة أيام سرنا معًا.»
فسرَّت هند لهذا الحلّ الذي جاءَ من تلقاء نفسهِ فقالت: «لا أراني قادرة على التأجيل وأخشى أن يزيد غضب الله علينا وأنا لا أَرى موجبًا لذهابك معي فقد أذهب مع بعض الخدم متنكرة أقضى نهارًا هناك ثم أعود.»
قالت: «افعلي ما بدالك.» ثم ذهب كل إلى فراشهِ أما هند فلم يكد يغمض لها جفن وهي تتذكر ما مرَّ بها بالأمس وتفكر في ماذا تكلم حمادًا إذا اجتمعت بهِ في الغد.