السفر إلى الحجاز
فوصلا الخيمة في المساءِ وكان النبطي قد استبطأَهما لغيابهما يومين كاملين فلما عادا رحب بهما فنزلا وهم يفكران في أمر السفر والاستعداد لهُ والعمدة في ذلك على سلمان فابتاع جملين لحمل الماءِ والثياب والزاد وسأَلا الشيخ النبطي عن رجل خبير بالطرق يرافقهما إلى مكة بأجرة ترضيهِ فسأَلهما عن سبب السفر فانتحلا سببًا أسكتهُ.
فقال: «أما الدليل فإني أدلكما على رجل من أهل يثرب وهي المدينة التي جاء منها الحجازيون الذين قلت لكم أنهم سيخرجون هذه البلاد من أيدي بني غسَّان وقد جاءني أمس بمهمة من بعض أمراء ذلك الجيش فدللتهُ على بعض الأماكن التي يمكنهم الحصول فيها على زاد لهم وسمعتهُ يقول أنهُ لا يلبث أن يعود إلى بلده فإذا رافقكما إليها كان لكم بهِ خير رفيق ومتى وصلتم يثرب هان عليكم الوصول منها إلى مكة.»
فقال سلمان: «والظاهر أن صاحبك هذا من أتباع صاحب الدعوة الإسلامية بالمدينة.»
قال: «نعم هو مسلم وقد جاءَ في جملة المسلمين إلى عمان وسيعود بمهمة خصوصية فهل أستقدمهُ إليكم.»
قال سلمان: «استقدمهُ.»
فخرج من الخيمة ونادى: «أبا سعيد» فسمعوا صوتًا يقول: «لبيك يا أخا العرب.»
فقال النبطي: «هلمَّ إليَّ.»
فجاءَ بدوي طويل القامة عريض الأكتاف خفيف اللحية يظهر من ملامح وجههِ أنه في الأربعين من العمر عاري الرأس والقدمين ملتحف شملة من نسيج أبيض تغطي بدنهُ فيلف بعضها حول عنقهِ ويترك منها زائدة ينشرها على رأسهِ إذا اشتد عليهِ الحر وفي يده رمح ونبلة.
فلما رآه سلمان عرف من شكل ملابسهِ وملامح وجهه أنهُ حجازي من أهل المدينة فلما وصل أبو سعيد إلى حماد بهره ما عليهِ من اللباس الفاخر من الخز والديباج والحرير فعلم أنهُ أمير ولكنهُ ظنهُ من أمراء غسَّان فلم يهش لهُ فابتدرهُ النبطي قائلًا: «أن الأمير ليس من غسَّان كما قد يخال لك بل هو من العراق فلا تنقبض نفسك لرؤيتهِ.»
فقال أبو سعيد: «لا بأس من أن يكون غسَّانيًا فإننا تجاورنا في منزلك فنحن الآن أخوة.»
فقال حماد: «بورك فيك يا أخا العرب ممن أنت.»
قال: «من أهل يثرب.»
قال سلمان: «أن أهل يثرب أكثرهم من اليهود.»
قال: «نعم فيها كثير منهم فهل قدمتها قبل الآن.»
قال: «نعم جئتها منذ عشر سنوات.»
قال: «لقد تغيرت حالها عما كانت عليهِ في ذلك الحين بإشراق نور الإسلام.»
فقال سلمان: «ألعل نبي الإسلام منكم أم من قريش في مكة.»
قال: «لا ليس منَّا ولكننا قمنا بنصرتهِ وفتحنا لهُ صدورنا ومنازلنا فهو يقيم في مدينتنا وقد سمانا الأنصار.»
قال سلمان: «إذن أنت سائر إلى المدينة.»
قال: «نعم وإلى أين أنتم ذاهبون.»
قال: «إلى مكة فهل ترافقنا إليها.»
قال الرجل: «يا حبذا لو كان ذلك في الإمكان.»
فقال سلمان: «وهل يمنعك من ذلك بعد المسافة أم أنت سائر في مهمة على عجل.»
قال: «نعم أني سائر في مهمة على عجل ولكن ذلك لا يمنعني من المسير إلى مكة لو لم يكن أعداؤُنا لنا فيها بالمرصاد.»
فقال سلمان: «وأي الأعداء تعني.»
قال: «أعني بني قريش أعمام نبينا فإنهم لا يزالون يتوقعون فرصة للفتك بهِ وهو إنما جاءَ المدينة مهاجرًا فنصرناه كما قدمت وقد تبعهُ إليها نفر من ذوي قرباه أما الباقون فلا يزالون في مكة وقد تحالفوا على عدوانهِ وفى مقدمتهم أبو سفيان الأمير التاجر الشهير.»
فقال سلمان في نفسهِ (أن تلك مشكلة لم تكن من حسباننا وتصور أن في الطريق بين المدينة ومكة خطرًا لما بين أهل البلدين من العداوة) فنظر إلى المدني وقال: «هب أننا تركناك في المدينة فهل في طريقنا إلى مكة من خطر.»
قال: «لا خطر عليكم إذا سرتم في طريق معروفة ولو كنتم من دعاة الإسلام مثلنا لكان في مسيركم خطر ولكنكم غرباء سائرون في سبيلكم ولعل الأفضل أن تسيروا في قافلة لأنكم تكونون في كثرة فلا خوف عليكم من طارق بإذن الله.» قال ذلك وصمت وأطرق كأنهُ يفكر في أمر طرق ذهنهُ بغتة.
فنظر سلمان إلى حماد كأنهُ يستطلع رأيهُ بعد ما سمعاه من ذلك اليثربي فقال حماد: «أرى أن نرافق الرجل إلى المدينة ثم ننظر ما يكون من أمرنا.» ثم إلتفتا إلى الرجل فإذا هو مطرق يتلاهى باصلاح ثنيات ثوبهِ فابتدره سلمان قائلًا: «ما بال أخي قريش مطرقًا يفكر ألعل رأيًا جديدًا فتح عليهِ بهِ.»
قال: «لم يخطر لي رأى جديد ولكني تذكرت أمرًا ذا بال أظنهُ يهمكم أيضًا.»
فتطاول سلمان بعنقهِ وقال: «وما ذلك.»
قال: «تذكرت حديثًا سمعتهُ من معسكرنا في عمان فإذا صح مسيرنا إلى مكة قريبًا فتدخلونها آمنين مطمئنين.»
فلم يدرك سلمان كنه كلامهِ فقال: «وماذا تعنى بمسيركم إلى مكة.»
قال: «أعني أن نبينا (ﷺ) سيحمل على مكة برجالهِ فيفتحها ويكسر أصنامها فتصير في حيازتنا فإذا دخلتموها كنتم آمنين.»
فقال: «وهل أنت موقن بهذا الخبر وهل المسير إليها قريب.»
قال: «أني واثق بصدق الرواية ولكنني لم أتحقق الزمن الذي ينوي فيهِ المسير وعلى كل فإننا متى وصلنا المدينة علمنا حقيقة الحال فهلمَّ إلى الاستعداد.»
ثم تركهما وذهب فنظر سلمان إلى حماد وقال لهُ: «لم يسرَّني الخبر كثيرًا لأن وصولنا إلى الكعبة وبحثنا فيها عن القرطين قد يكون أسهل علينا قبل ذلك الفتح منهُ بعده.»
فقال حماد: «لا أرى رأيك في ذلك إذ ربما كان لنا بعد الفتح سبيل أسهل وطريق أقرب وسنرى ما يأتي بهِ الغد فعليك الآن بإعداد حاجيات السفر من الجمال والمياه والزاد ونحوها.»
فقال سلمان: «أرى أن نركب خيلنا ونأخذ جملين لحمل الماءِ والزاد على أن يكونا ذخرًا لنا في حال الإضطرار إلى الركوب لأن الجمال أصبر على العطش من الخيل.» قال ذلك وأخذ في الاستعداد.
وفى صباح اليوم التالي استحضروا جملين وخادمين وحملوا أحمالهم مما خفّ وغلا وتركوا ما بقي من الثياب وغيرها عند الشيخ النبطي وساروا يطلبون الحجاز.
ولما تبطنوا الصحراءَ وبعدوا عن البلقاء أحس حماد بالوحشة وتمثل لهُ خطر المسير وتحقق كلام سلمان ولكنهُ تجلد وألقى اتكالهُ على الله.
وبعد مسير بضعة أيام أشرفوا على جبال المدينة فقال اليثربي: «ها نحن على مقربة من يثرب ولا نلبث أن نشرف عليها.»
فقال سلمان: «أني أعرف المدينة وطرقها فقد نزلتها منذ أعوام.»
فقال اليثربي: «لا تلبث أن تشرف عليها فترى فيها تغييرًا طرأَ عليها بعد نزول النبي فيها فقد بنيت فيها المنازل وكثرت البيوت وتعدد السكان لكثرة من هاجر إليها من أصحاب الرسول وغيرهم.»
وبعد هنيهة أشرفوا على المدينة فإذا هي في منبسط من الأرض تحدق بها البساتين والغياض فقال اليثربي: «هذه يثرب فهل تنزلان فيها ريثما تصطحبان من يرافقكما إلى مكة أو تريان رأيًا آخر.»
قال حماد: «أني أفضل النزول هنا مدة لأشاهد المدينة وأهلها وأرى صاحبكم وأصحابهُ بعد ما ملأت أذني من أحاديث حروبهِ وأوصافهِ.»
فانحدروا حتى ساروا على مقربة من السور لا يستغشهم أحد ممن رأوهم لأن بينهم أحد الأنصار وقد ظن كثيرون أنهم إنما جاؤوا يلتمسون الإسلام لكثرة من كان يفد على المدينة من القبائل في تلك الأيام وأكثرهم كانوا يجيئون رغبة في الإسلام.
فلما دنوا من السور قال سلمان: «أرى أن نضرب خيامنا هنا فنستريح هنيهة ثم نترك دوابنا ومضربنا في عهدة الخدم وندخل المدينة خفافًا.»
فقال اليثربي: «أما أنا فلا أستطيع صبرًا عن المسير إلى المدينة الساعة لأني في مهمة فأرجو أن نلتقي هناك.»
فقالا: «سر بحراسة الله.»
فودعهم ومضى.
فلما خرج إلتفت سلمان إلى حماد وقال لهُ: «أراك راغبًا في دخول المدينة.»
قال: «نعم.»
قال: «ولكنني لا أَرى ذلك.»
قال: «ولماذا.»
قال: «لأننا لم نترك البلقاءَ ونتجشم الأسفار لنقيم في هذا المكان فضلًا عن الخطر الذي قد ينتابنا لمجرَّد دخولنا المدينة.»
فقال: «وأي خطر علينا من ذلك.»
قال: «أخاف أن يرانا هناك أحد من عيون أبي سفيان فإذا رآنا في مكة عرفنا فيحسبنا من المسلمين فيعرقل مساعينا.»
قال: «إذا رأينا أبا سفيان قلنا لهُ أن عبد الله والدي أو ربما رأَينا والدي معهُ فنأمن الخطر.»
قال: «لو كان على يقين من وجود سيدي والدك عنده لهان علينا العسير ولكننا إنما قلنا ذلك على سبيل الظن.»
فلبث حماد برهة يفكر فتذكر والده وخطيبتهُ وحالهُ فرغب في إتمام مهمتهِ بالمسير إلى مكة فقال: «أراك مصيبًا في رأيك فالأفضل لنا أن نسير إلى مكة لنبحث عن القرطين فإذا ظفرنا بهما هان علينا كل ما نريده.»
وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل فأرسلا خادمًا يبتاع زادًا وعلفًا فعاد عند الغروب فأكلا وأطعما الجملين والجوادين.
وباتوا تلك الليلة وأصبحوا في الغد باكرًا فملأُوا القرب وركبوا يريدون مكة وكان سلمان لا يعرف الطريق إليها. ولعلهُ كان يعرفها ونسيها ولكنهُ كان لا يزال يذكر طريقًا تؤَدي إلى مكة عن طريق آبار بدر غربي المدينة ففضل المسير إلى تلك الآبار ليبيتوا عندها ثم يملأُون قربهم ويسيرون نحو مكة. أما حماد فلم يكن يعلم شيئًا من تلك الطرق وكان اعتماده على سلمان في كل شيء.