البحيرة
فساروا طول ذلك النهار سيرًا بطيئًا لعلمهم أن الآبار غير بعيدة عنهم وأنهم بائتون هناك لا محالة فلما كانت الظهيرة حطوا رحالهم للاستراحة فحلوا الأحمال وجلسوا للطعام ثم توسدوا العشب تحت شجرة كبيرة يلتمسون القيلولة واشتغل الخادمان برعاية الجملين.
فأَفاقا عند العصر وإلتفتا فلم يريا الجملين ولا راعييهما فبغت سلمان ونهض للحال ونظر إلى ما حولهُ فرأَى كل شيء في مكانهِ كما فارقهُ فأخذ يتشوف عن التلال لعلهُ يرى أثر الجملين فلم ير لهما أثرًا ولكنهُ رأَى أثر خفافهما على الرمال فهمَّ بتتبع الأثر وقال لحماد: «تربص هنا ريثما أرى ما تمَّ لهما.» فمكث حماد وسار سلمان حتى غاب عن النظر ومالت الشمس نحو المغيب ولم يرجع سلمان فقلق حماد كثيرًا وخاف أن يدركهُ الظلام وهو منفرد في تلك الأرض.
وفيما هو في ذلك رأَى أشباحًا تقترب فتفرسها فإذا هي ثلاثة من الإبل ومعها الخادمان وسلمان فعجب للجمل الزائد فلما وصلوا استطلعهم الخبر.
فقال سلمان: «أَرأَيت هذه الناقة.»
فنظر حماد إليها فإذا هي مشقوقة الأذنين فعجب لحالها وقال: «وما خبرها وما الذي جرى لها.»
قال: «هذه هي الناقة التي يسميها الحجازيون البحيرة فإن من عوائدهم التي قد أخذت تتلاشى بعد ظهور الإسلام أن الرجل منهم إذا ولدت ناقتهُ خمسة أبطن وكان الأخير ذكرًا بحر أذنها أي شقها وامتنع من زكاتها وأطلق سراحها لا يمنعها من ماءِ ولا مرعى فكأن خادمينا رأَيا هذه الناقة سائبة فأرادا القبض عليها فهمَّ لها أحدهما فنفرت منهُ فظن أنهُ إذا ركب إحدى ناقتينا أدركها فتعقبها بها فلم يدركها فاستبطأه رفيقهُ فركب الجمل الآخر ولحق بهِ حتى لحقت أنا بهما فرأَيتهما قد قبضا عليها بعد جهد شديد وعادا وقد وبختهما على ما ارتكباه فوعدا أن لا يعودا إلى مثل ذلك مرة أخرى.»