آبار بدر
فعجب حماد لحكاية البحيرة ولكنهُ تأسف لضياع الوقت حتى دنا المغيب ولم يصلا الآبار فقال: «أرى يا سلمان أن نترك هذه الناقة وشأنها لأننا لسنا في حاجة إليها ولا عندنا من علف نطعمها إياه ولنهتم بالمسير لكي ندرك الآبار فهل نحن بعيدون عنها.»
فقال سلمان: «إننا على مسافة قصيرة فهلم بنا إليها.» قال ذلك وأمر فركبوا جميعًا وساروا يقطعون السهول والأودية حتى خيم الغسق وقد نفد ماؤُهم ولم يصلوا الآبار فقلق سلمان وخاف أن يكون قد أخطأ الطريق فساق جواده إلى أكمة أطل منها على منخفض علم مما يحيط بهِ من الجبال أنهُ المكان المقصود ولكنهُ لم يستطع تحقيق ذلك لبعد المكان وظلامهِ فعاد إلى حماد وأنبأَهُ بما كان فاتفق رأيهما على أن يتركا الخادمين والجملين هناك ويسيرا هما على الفرسين ليتفقدا المكان فإذا كان هو بعينهِ شربا وسقيا الفرسين لأن الخيل لا تصبر على العطش ثم يناديان الخادمين.
فهمزا الجوادين فسارا في أرض وعرة والجو هادئٌ لا يسمع فيهِ غير وقع الحوافر على تلك الصخور وكان الظلام آخذًا في الاشتداد ولكن القمر كان قد أرسل أشعة ضعيفة تبشر بقدومهِ قبل طلوعه فلما وصلا إلى قمة الجبال المحيطة بمكان الآبار أخذا في الانحدار وهما ينتظران طلوع القمر بفارغ الصبر ليساعدهما على تعيين المكان فوصلا إلى منبسط الوادي ونظرا إلى ما حولهما فإذا هما في واد مظلم تحفُّ بهِ الجبال من أكثر جهاتهِ لا يسمع فيهِ صوت ولا يهب فيه نسيم وكان القمر قد طلع لكن أشعتهُ لم تدرك أسفل المكان بعد فتحقق سلمان أنها آبار بدر ثم استنار الوادي فتأملهُ سلمان فإذا هو بعينهِ ورأى الأماكن التي كانت تقام فيها السوق كل عام وكانت تجتمع إليها القبائل للبيع والشراء والأخذ والعطاءِ ولكنهُ آنس في المكان وحشة وهجرًا كأنهُ هجر منذ أعوام ثم خطر لهُ أن الليل يريهِ ذلك فأخذ يبحث عن محل الآبار وحماد في أثناء ذلك صامت لا يبدي حراكًا.
وترجلا عن الفرسين وسارا يقودانهما وقد تهيبا وندما لتلك المخاطرة وكان أعظمهما ندمًا سلمان لأنهُ ساق سيده إلى الخطر ولكنهُ تجلد وسار وحماد إلى جانبهِ لا يتكلمان حتى وصلا إلى حفر متفرقة فاستترا وصاح سلمان: «هذه هي الآبار قد أدركناها.» وكانا قد أعدَّا ما يستقيان بهِ من دلو أو نحوه فألقى سلمان الدلو فسمع صوتهُ يصادم قعر البئر والبئر فارغة فعجب لذلك ثم ما لبث أن سمع حركة ورأَى حيوانًا وثب من البئر وفرَّ فتأَملهُ فإذا هو يشبهُ الثعلب أو الكلب فازداد استغرابهُ وبغت حماد وقال: «ما هذا يا سلمان أيخرج من الآبار ثعالب.»
قال: «أني في غاية الاستغراب من هذا الاتفاق. أن المكان هو هو بعينهِ وقد نزلت فيهِ منذ ست سنوات وشربت من مائهِ ورأَيت الناس يستقون منهُ فلا أدري ماذا جرى لهُ فيلوح لي أن أنزل في هذه البئر فإني أراها غير عميقة لعلي أستطلع من أمرها شيئًا.» فأنزل قدمًا ثم الثانية حتى أدرك القعر فأحس كأَنهُ واقف على عظام فمد يده وأمسك العظام بيده فإذا هي مدفونة كلها أو بعضها بالتراب واستخرج شيئًا منها فتصاعدت عنها روائح كريهة ولمس عظامًا طويلة ومستديرة وكروية على أشكال شتى فاقشعرَّ جسمهُ لأنهُ علم من أشكالها أنها عظام آدميين فصعد للحال وقد هالهُ الموقف لم يشأ أن يخبر حمادًا بذلك لئلاَّ يخاف وتاقت نفسهُ لاستجلاء حقيقة الأمر عن تلك الجماجم والعظام ولكنهُ كتم ذلك وأوعز إلى حماد بالعود فعاد حماد وهو ينتظر أن يسمع شيئًا جديدًا فلم يفه سلمان بكلمة فظلاَّ سائرين في ذلك المنخفض وحماد ينتظر حديث سلمان وسلمان يفكر في غريب ما رآه والليل هادئٌ لا يسمع فيهِ إلا صوت وقع الحوافر فلما أبطأ سلمان في الحديث همَّ حماد بالسؤَال عما رآه وإذا بصوت جمل يهدر عن قرب فوقفا وأنصتا ليعرفا جهة الصوت فإذا هو جمل منحدر من أعلى الجبل من الجهة التي جاءَا منها أولًا فظنَّا احد الخادمين قادمًا لخبر جديد فلبثا واقفين ينتظران ما يكون فإذا بالراكب في لباس غير لباس الخادم فتأَملاه فإذا هو رفيقهما اليثربي فلما دنا منهما ناداهما فعرفا صوتهُ فأجابهُ سلمان فتعارفوا.
فلما وصل اليثربي إليهما قال: «ما الذي جاءَ بكما إلى هذا المكان.»
قال سلمان: «جئنا نلتمس الماءَ.»
قال: «أتلتمسون الماءَ من هذا المكان وقد أصبح مجتمعًا للرمم ومعرضًا للجيف.»
قال سلمان: «لا أعرفهُ إلَّا مستقى فيهِ ماء عذب وقد عجبت لما تقول وخصوصًا بعد أن رأيت الجماجم بنفسي ولمستها بانملي.»
فبغت حماد لذلك وقال: «أتقول الصدق يا سلمان.»
قال: «نعم يا مولاي قد لمست الجماجم والسواعد والأفخاد بيدي وكتمت ذلك عنك لئلَّا تتهيب.»
قال حماد: «لقد عرفت سرَّ سكوتك كل هذه المدة وأنا أتوقع خطابك بعد نزولك إلى قاع البئر» ثم إلتفت إلى اليثربي وقال: «وما الذي حوَّل هذا الماءَ إلى رمم وعظام.»
قال: «أن لذلك خبرًا طويلًا سأقصهُ عليكما متى جلسنا فقد جئتكما بالماءِ ووضعتهُ عند خادميكما وراءَ هذه الأكمة وقد تستغربان مجيئي إليكما في هذا الليل على غير موعد بيننا وأما السبب في ذلك فإني لبثت في انتظاركما اليوم بباب المدينة فلما استبطأتكما جئت أفتقدكما فلم أجدكما فعلمت من قرائن مختلفة أنكما سرتما نحو هذه الآبار ولما كنت عالمًا بجفافها حملت إليكما قربة ماءِ وسرت أقتص خبركما حتى جئت إلى خادميكما فقالا لي أنكما تطلبان الماءَ من هنا فجئت إليكما على عجل كما تريان.»
قال ذلك وأشار إليهما أن يتبعاه فركبوا وساروا جميعًا وكل منهم يتأمل هيبة ذلك المكان بعد ما علموا من أمره حتى وصلوا أعلى الوادي وتحولوا نحو الخادمين وكانا في انتظارهم فلما وصلوا ترجلوا جميعًا وجلسوا على دكة فتناولوا الطعام وشربوا وسقوا الخيل والجمال وسلمان وحماد ينتظران خبر بدر بفارغ الصبر.
فلما استتب بهم الجلوس قال حماد: «أراني في قلق لا مزيد عليهِ فهل تتكرَّم علينا بخبر تلك الآبار.»
قال: «أن خبرها غريب يطول شرحهُ فإذا كنتم مستعدين لاستماعهِ الليلة قصصتهُ عليكم وإلاَّ فإني أقصهُ عليكم في الغد.»
فصاحا معًا: «بل تقصهُ علينا الليلة فإن القمر قد أبدر وتاقت نفوسنا إلى السمر إلَّا إذا كان في ذلك ثقلة عليك.»
قال: «أني شديد الرغبة في قص هذه الحكاية لأنها تبين كرامة نبينا (ﷺ) وبها يفتخر المسلمون كما ستستمعون.»
ثم جلسوا وأخذ اليثربي يقص حكايتهُ وحماد وسلمان منصتان والجمالان يتطاولان عن بعد لاستماع الخبر.