غزوة بدر الكبرى
ففي السنة الثانية للهجرة كانت وقعة بدر الكبرى وسببها أن أبا سفيان بن حرب رجل قريش وأكبر زعمائهم كان قادمًا من الشام في أبل لقريش عليها أموال كثيرة ومعها ثلاثون رجلًا أو أربعون من قريش وكلهم من أعداءِ الإسلام وفي جملتهم عمرو بن العاص وكانت آبار بدر هذه محطة تقف عندها القوافل القادمة من الشام للاستقاء في طريقها إلى مكة فلما علم رسول الله (ﷺ) بمروره انتدبنا للخروج عليهم فعلم أبو سفيان بذلك فأنفذ بعضًا من رجالهِ إلى مكة يستنفرون الناس للقدوم إلى الآبار لحماية أموالهم فكان الرجل منهم إذا وصل إلى مكة وقف على بعيره وقد جدَّعهُ وحوَّل رحلهُ وشق قميصهُ وهو يقول: «يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أن أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابهُ لا أدري أن تدركوها الغوث الغوث.» فتجهز القرشيون سراعًا لم يتخلف من أشرافهم إلا من عجز عن المسير فبلغ عدد السائرين ألف رجل ومئة فرس وسبعمائة بعير وأما رجالنا فكان عددهم ثلاثمئة وبضعة عشر رجلًا وسبعين بعيرًا وفرسين. فسارت رجالنا من المدينة يتقدمهم النبي حتى وصلنا إلى مكان اسمهُ الصفراء فبعث من يتجسس خبر أبي سفيان فقيل لهُ أنهُ بالقرب من بدر فجمعنا في جلسة وجمع أصاحبهُ المهاجرين معنا وشاورنا جميعًا وكان قد استطلع قوة العدو وأطلعنا عليها وقال: «ما تقولون هل نحاربهم.» فأجابوا جميعًا بصوت واحد وقلب واحد: «موافقين» وسأل الأنصار فقالوا: «فوالذي بعثك بالحق أن استعرضت بنا هذا البحر فخضتهُ لنخوضنهُ معك وما نكره أن تكون تلقي العدو بنا غدًا لعل الله يريك منا ما تقرُّ بهِ عينك فسر بنا على بركة الله.»
فلما سمع كلامهم أثنى عليهم وسار وسرنا جميعًا وكان أبو سفيان قد نزع إلى الخديعة في أثناءِ تلك الفترة فسار من يمين الآبار حتى تجاوزها والعير معهُ فلقي رجال قريش في مكان يقال لهُ الجحفة فخاطب أشراف قريش قائلًا: «هذه العير والأموال قد نجت فارجعوا إلى مكة» وكان في جملة أولئك رجل اسمهُ أبو جهل لعنه الله عليهِ فأبى إلَّا أن يمرَّ بالآبار فساروا حتى دنوا من الوادي أما نحن فسرنا نطلب الآبار فنزلنا عندها ومنعنا الأعداء منها فتقدم زعيم الأنصار منا وهو سعد بن معاذ وقال: «يا رسول الله نبني لك عريشًا من جريد فتكون فيهِ ونترك عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا الله عليهم كان ذلك مما أحببناه وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءَنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبًا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويحاربون معك.» فأثنى الرسول عليه خيرًا فبنينا لهُ عريشًا.
وبعد قليل رأينا غبار قريش ثم ظهرت رجالهم وفرسانهم وعليهم العدة والسلاح يتقدمهم أمراؤُهم في أفخر اللباس وكانوا أهل بذخ وترف وقد أخذت بهم الخيلاء والفخر فلما دنوا منا عسكروا أمامنا ثم أرسلوا رجلًا منهم ليحزرهم أي يقدّر عددهم فجال بفرسهِ قليلًا وعاد فأنبأَهم بقلة عددنا فتشاوروا في الأمر طويلًا وفيهم من يشير بالرجوع وكانوا بين أن يرجعوا أو يهاجموا لأن الماء في حوزتنا فإذا لبثوا مكانهم هلكوا عطشًا فعظم عليهم الرجوع لكثرتهم وقلتنا فاقروا على الهجوم فخرج منهم أفراد طلبوا البراز فبارزناهم فقتلنا بضعة من كبارهم فهجم آخرون منهم وهجم بعض منا والتحم الفريقان وكان يومًا عظيمًا خاف فيهِ المسلمون خوفًا شديدًا لما رأوا من قتلهم وقد سمعت رسول الله (ﷺ) يقول وقد رأَى احتدام الحرب: «اللهم أن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض اللهم انجز لي ما وعدتني.» قال ذلك وهو ينظر إلى رجالهِ ويدعو لهم بالنصر وقد سمعت دعاءَهُ بأُذني لأني كنت في جماعة من الأنصار مع سعد بن معاذ واقفين بباب العريش نحرس رسول الله (ﷺ) خوفًا عليهِ من كرة العدو. ولقد رأيت ما كان من فتك المسلمين بالمشركين ما ينشرح لهُ الصدر وخصوصًا لما رأيت أبا جهل زعيم القريشيين مجندلًا يختبط بدمهِ وكان أشد الناس عداوة لنبي الله ورأيت غيره من أمرائهم مقتولين منهم حنظلة بن أبي سفيان وشيبة وعتبة وأمية وغيرهم ورأَيت أشد المسلمين فتكًا في ذلك اليوم حمزة بن عبد المطلب عم الرسول فقد رأيتهُ يخترق الجماهير وفى صدره ريشة نعامة يمتاز بها عن غيره.
ومن غريب ما شاهدتهُ من بسالة المسلمين في ذلك اليوم واستهلاكهم في نصرة الإسلام أن معاذ بن عمر بن الجموح كرَّ على أبي جهل المتقدم ذكره وكان محاطًا بزمرة من رجالهِ فاخترق الناس إليهِ فضربهُ ضربة أصابت ساقهُ فهجم عكرمة بن أبي جهل على معاذ بضربة قطعت يده فطرحها عن عاتقهِ ولكنها ظلت معلقة بجلدة من جثتهِ فما زال معاذ يقاتل كل ذلك اليوم ويدهُ تجر وراءهُ فكنت أنظر إلى ذلك وأشعر كأَن يدي في مثل ذلك أما هو فلم يكن يبالى فلما آذتهُ يدهُ وعاقتهُ عن الحرب جعل رجلهُ عليها وتمطى حتى انفصلت فتركها وعاد إلى الحرب. وكان في جملة جند المشركين العباس بن عبد المطلب فانهُ كان لا يزال مترددًا بين الإسلام وما كان عليهِ أجداده فلما حمل القرشيون على بدر حمل معهم مكرهًا فأسر في جملة من أسر ولكن أسرهُ لم يطل لأن النبي أمر بإطلاقهِ حالًا.
ولم يمض زمن حتى رأَينا المشركين هموا بالفرار فقبضنا على جماعة كبيرة منهم ولما انقضت الحرب أمر رسول الله أن يؤتى بجثث القتلى إلى القليب فجييءَ بها فتكومت كومًا وفيها جثث نخبة أمراء قريش وهي التي رأيتم بقاياها في الآبار الليلة ثم جمعت الغنائِم ففرّقت فينا على السواء وحملت بشائر النصر إلى المدينة وأخبار الويل إلى مكة وقد كانت هذه المعركة قاضية على مشركي قريش إذ قتل فيها جماعة من ألدّ أعداء الإسلام وأشدهم بطشًا وفي جملتهم أبو لهب عم الرسول وكان شيخًا كبيرًا لم يحضر الحرب فلما بلغتهُ نكبة القرشيين اشتد الأمر عليهِ فمات بعد تسعة أيام.
فأصبح زعيم القرشيين بعد هذه المعركة أبا سفيان الذي ذكرتهُ لكم وهو مشهور وكثيرًا ما يسير إلى الشام فلا يخلو أن تكونوا قد رأيتموه هناك.»
فقال سلمان: «نعم رأَيتهُ غير مرة وهو أشهر من أن يذكر.»
فقال: «وسترونهُ قريبًا عند وصولكم مكة فإنهُ عاد عليها منذ بضعة أسابيع.»
فلما سمعا ذكر أبي سفيان توهما أن يكون عبد الله معهُ ولكنهما كتما ذلك.
ثم قال اليثربي: «وأصبحت الآبار بعد تلك المعركة مهجورة وقد ألقوا الجثث فيها فانتنت وبطل موسمها السنوي من ذلك الحين.
هذه هي حكاية الآبار فاشكروا الله أنكم لم تلقوا فيها وحشًا ضاريًا أو نحوه فلنبت الليلة هنا ولنعد في الغد إلى المدينة نمكث فيها يومًا ثم تسيرون منها في قافلة إلى مكة وإلاَّ فاختاروا لأنفسكم.»
فأعجب حماد بشهامة ذلك الرجل وغيرتهِ عليهم ورغبتهِ في إنقاذهم وقال: «إننا والله شاكرون لحسن صنيعك جزاك الله خيرًا وقد يجدر بنا بعد هذا الصنيع أن نكون طوع بنانك نسير معك حيثما سرت ولكننا نرى سرعة المسير إلى مكة لعلنا نلتقي فيها بأَبي سفيان قبل خروجه منها.»
فقال اليثربي: «ألعلكم تعاملونهُ معاملة التجار فإن لهُ علاقات كثيرة مع تجار الشام.»
قال سلمان: «لا علاقة تجارية بيننا وبينهُ ولكننا نفتش عن صديق لنا سار برفقتهِ من بيت المقدس.»
فقال اليثربي: «أنصح لكم نصيحة صديق مخلص لا يريد بكم غير الخير فهل تنتصحون بها.»
قالا: «نعم ويكون لك علينا الفضل.»
قال: «أنصح لكم إذا لقيتم أحدًا من المسلمين في المدينة أو غيرها وعرض ذكر أبي سفيان فلا تذكروا علاقة بينكم وبينهُ فإن ذلك يوقع عليكم شبهة وربما يلحق بكم من جراء ذلك ضرر.»
فقال سلمان: «لقد أخلصت النصيحة وأردت بنا خيرًا فشكرًا لك على ذلك ونحن لو لم نتوسم فيك الإخلاص لما فرط منا ذكر هذا الرجل على أننا لم نقل أننا أصدقاؤُه وإنما قلنا أن صديقًا سار برفقتهِ.»
فقال اليثربي: «ومهما يكن من الأمر فقد نبهتكم إلى ما لا يخلو من فائدتهِ.»
قال حماد: «لا ريب من ذلك عندنا فنشكرك عليهِ شكرًا جزيلًا.»
وكان قد مضى معظم الليل وغلب النعاس على الجميع فنهضوا للرقاد فلما أصبحوا خيرهم اليثربي في الذهاب معهُ إلى المدينة أو الذهاب إلى مكة توًّا فأثنوا عليهِ واعتذروا بأنهم يؤثرون المسير توًّا إلى مكة على نية أن يمروا بالمدينة في عودتهم فأطاعهم وأوصاهم وصايا تتعلق بسفرتهم وودعهم وعاد إلى المدينة وتركهم يستعدون للسفر إلى مكة.