بكر وخزاعة
فلما خلا حماد بنفسهِ تذكر حالهُ مع هند وما هو ذاهب من أجلهِ وكان في أثناءَ حديث اليثربي عن أبي سفيان يهمُّ بالاستفهام عن والدهِ ثم يخاف العاقبة فيمتنع وأخيرًا صبر نفسهُ ريثما يصل مكة ويلتقي بأبي سفيان.
وفي صباح اليوم الثاني ركبوا وساروا لا يلوون على شيء فأمسى المساء وقد أدركوا بقعة من الأرض يكسوها المرعى وفى أحد جوانبها شجرة تحتها عين ماء عذب اعتاد المارة الجلوس إليها إلتماسًا للراحة من وعثاء السفر أثناء مرورهم بين مكة والمدينة.
فجلسوا إلى الشجرة وأوقدوا نارًا يستضيئون بها أو يستخدمونها في معالجة طعامهم تلك الليلة. حتى إذا اكلوا جلسوا يتسامرون ريثما يتغلب عليهم النعاس فلما انقضى الهزيع الأوّل من الليل هموا بالرقاد وقد أمروا الخادمين أن يتناوبا السهر خوفًا من طارئ يفاجئهم ولم يكد يغمض لهم جفن حتى أفاق سلمان فسمع ضوضاءَ عن بعد فألصق أذنهُ بالأرض فتبين لهُ أن بضع عشرات قادمون من مكة مسرعين ومعهم الخيول وعلم أنهم نازلون عند تلك العين لا محالة فخاف أن يكون عليهم من نزولهم بأس فإلتفت إلى حماد فإذا هو لا يزال نائمًا فتردد بين أن يوقظهُ أو أن يتركهُ نائمًا وفيما هو يتردد أَفاق حماد من تلقاء نفسهِ فرأَى سلمان جالسًا على فراشهِ فبعث وناداه واستطلعهُ الخبر.
فقال: «كنت عازمًا على إيقاظك لو لم تستيقظ من تلقاءِ نفسك.»
قال حماد: «وما سبب ذلك.»
قال: «أني أسمع أصوات خيول وأناس قادمين من جهة مكة فأخشى أن يكونوا سائرين في حرب وربما أوقعوا بنا سوءًا.»
فقال حماد: «وما الرأي إذن.»
قال: «الرأي أن نتواطئ على كلام نقولهُ لهم يضمن لنا النجاة.» فقال: «وما هو»
قال: «يغلب على الظن أن القادمين من أهل مكة الذين لم يؤمنوا بالنبي الجديد وإنهم يريدون المدينة لحرب أو لاستطلاع فهم من أعداء المسلمين وعلينا نحن أن نتجاهل أمر الإسلام ونتظاهر بأننا إنما جئنا نريد الاعتمار في مكة.»
فقال حماد: «وما معنى الاعتمار أن ذلك لا أَثر لهُ في ديننا.»
قال: «هو الحج إلى الكعبة والكعبة حج يؤمها الناس من أقاصي الأرض على اختلاف الملل والنحل فإذا قلنا أننا غرباء قاصدون زيارة الكعبة لا يستفشوننا.»
فقال حماد: «افعل ما بدالك وكن أنت المتكلم عني.»
ولم يكادا يتمَّان الحديث حتى جاءَ خادمهُ سلمان ينبئهم أن الجمع قد اقترب وأنهم يقصدون ذلك الماء.
فلبثوا تحت جنح الظلام ينتظرون وصولهم وقد زادوا نارهم وقودًا استئناسًا بالنور.
فلم يمض قليل حتى وصل الماء فارس ملثم فلما اقترب من النار نادى: «من القوم النزول ههنا.»
فقال سلمان: «عرب من لخم ومن أنت.»
قال: «عرب من خزاعة وما الذي جاءَ بكم إلى هذا المكان.»
قال سلمان: «جئنا لزيارة البيت الحرام.»
قال: «هل مررتم بالمدينة.»
قال: «مررنا بها عن بعد ولم ندخلها.»
وما أتمَّ كلامهُ حتى وصل رفاقهُ وفيهم الفارس والراجل فترجلوا جميعًا ودنوا من الماءِ فتفرس فيهم سلمان يسبر عددهم فإذا هم نحو الأربعين يتقدمهم رجل بلباس فاخر لم يستطع معرفتهُ لشدة الظلام وكان هذا الرجل هو وجيه القوم يأمرهم وينهاهم فعلم سلمان أنهُ رئيسهم وكان قد أمرهم أن ينصبوا خيمتهُ بالقرب من تلك الشجرة فأخذوا في ذلك وسلمان ينظر إليهم ثم لاح لهُ أن يستطلع حقيقة حالهم من زعيمهم فدنا منهُ وحيَّاه فرد الفارس التحية والارتباك ظاهر على وجههِ ولكنهُ إلتفت إلى سلمان وقال: «قد أنبأَني دليلنا أنكم من لخم فهل أنتم قادمون من العراق.»
قال: «نعم يا مولاي.»
قال: «ونحن نعلم أن اللخميين في العراق من أهل النصرانية.»
قال: «نعم ونحن كذلك.»
قال: «وكيف تقول أنكم جئتم لزيارة البيت الحرام والنصارى يحجون إلى بيت المقدس.»
فبغت سلمان ولبث برهة صامتًا لا يدري بماذا يجيب وظهر الارتباك على وجههِ ولكنهُ تجلد وقال: «وهل تقفل أبواب الكعبة دون النصارى إذا جاؤها معتمرين.»
قال: «كلاَّ فإن الناس يقدمون إليها من أقاصي العالم على اختلاف الملل والنحل ولكن النصارى قلما يجيئونها وزد على ذلك أن الوقت ليس وقت الحج فأصدقني الخبر.»
قال سلمان: «ليس في حقيقة خبرنا ما نخشى بيانهُ ولكنني رأَيتكم جمعًا كبيرًا فارتبنا من أمركم فإذا علمنا من أنتم أفدناكم عن حقيقة أمرنا.»
وفيما هو يقول ذلك جاءَه رجل يقول أن الخيمة قد نصبت والمائدة أُعدت فإلتفت إلى سلمان قائلًا: «إذا شئت أن تضيفنا على الطعام أتممنا الحديث فإننا نحتاج بعد طول السفر إلى الراحة.»
فقال: «فلنترك إتمام الحديث إلى صباح الغد.»
قال: «حسنًا» وافترقا فسار سلمان إلى سيده فإذا هو لا يزال جالسًا على فراشهِ ينتظر عودتهُ بخبر القوم فلما رآه عائدًا استطلعهُ الخبر فأَنبأه بما كان واستمهلهُ إلى الغد يستطلع الحقيقة.
فبات تلك الليلة على حذر ولما أصبح الصباح خرج سلمان إلى مضرب القوم فإذا هم أكثرهم من الفرسان وتأَمل لباسهم وحالهم فإذا هم من أهل الحجاز ففكر في أمرهم فرأَى أن يصطحب سيده وأن يسيرا معًا إلى رجل الأمس فاصطحبهُ وسارا.
فلما وصل الخيمة استأذنا في الدخول فأذن لهما فدخلا فوجدا الرجل جالسًا على وسادة مقطب الوجه كأنهُ يفكر في أمر همهُ فلما وقع نظره على سلمان وقف لهُ ورحب بهِ فبالغ سلمان في الاعتذار لما سببهُ لهُ من المشقة بتلك الزيارة ولكنهُ قدم سيده في الجلوس فأدرك صاحب الخيمة أنهُ سيد لهُ فرحب بهِ بنوع خاص وأجلسهُ إلى جانبهِ ثم إلتفت إلى سلمان وقال: «أرى ضيفنا في هذا الصباح عراقيًا أيضًا.»
قال سلمان: «نعم يا سيدي أنهُ أمير من أمراءِ العراق وأنا خادم لهُ فهل يتفضل سيدي بالإفادة عن اسمهِ.»
قال: «أني عمر بن سالم الخزاعي من بني كعب سائر في جماعة من خزاعة نريد المدينة.»
فقال سلمان: «ألعلكم من أهل مكة.»
قال: «نعم نحن نقيم في مكة ولكننا سائرون إلى المدينة في مهمة فهل أنتم قادمون منها.»
قال: «كلاَّ يا مولاي لم نكن في المدينة ولكننا مررنا بها عن بعد.»
قال: «يا حبذا لو أنكم دخلتموها.»
فتعجب سلمان لتمنيهِ هذا وعهدهُ بأهل مكة إذ ذاك أعداء لأهل المدينة على أثر ما كان من مهاجرة النبي وأصحابهِ منها.
فقال: «هل تأذن لي بسؤَال يزيل عني الالتباس.»
قال: «تفضَّل.»
قال: «قلتم أنكم من أهل مكة تقصدون المدينة وقد بلغنا أن بينكم وبين أهل المدينة عداوة.»
قال: «صدقتم ولكن بين أهل مكة جماعة كبيرة هم على دعوة أهل المدينة أي أنهم مسلمون ولكنهم مستضعفون لا يستطيعون التصريح خوفًا من كبار قريش أن يصيبوهم بسوءٍ على أنني سألتكم عن حقيقة أمركم فلم تجبني فهل أنتم سائرون إلى مكة للحج حقيقة.»
قال سلمان: «أما وقد آنسنا فيك ما آنسناه من كرم الخلق وحسن الوفادة فإني أطلعك على جلية أمرنا لعلك تكون لنا عونًا في ما نحن فيهِ.»
قال: «وما ذلك.»
قال: «نحن يا سيدي كما قلت لك من أهل العراق وهذا الأمير حماد سيدي وقد جئنا قاصدين مكة للتفتيش على الأمير عبد الله والد مولاي هذا فقد قيل لنا أنهُ جاءَ الحجاز برفقة أبي سفيان منذ أشهر فهل تعلم عنهُ شيئًا.»
قال: «أذكر أني شاهدت أبا سفيان بعد عودتهِ من الشام هذا العام ولكنني لم أعلم شيئًا عن الأمير عبد الله فربما كان معهُ ولم أَره.»
فقال سلمان: «هل يخبرني سيدي عن سبب قدومهِ إلى المدينة وهو من أهل مكة فإني أخاف أن يكون وراء مجيئكم ما يدعو إلى حرب تقفل بها أبواب مكة دوننا.»
قال: «أَما سبب مجيئنا إلى المدينة فهو أننا من خزاعة كما أخبرتكم وقد كانت قبيلتنا في خصام مع قبيلة أخرى يقال لها بنو بكر فكان النزاع بيننا لا يفتر حتى ظهر الإسلام وكانت الغزوات فجاءَ المسلمون منذ عامين إلى الحديبية بالقرب من مكة ومعهم نبيهم يريدون الاعتمار فخاف أهل مكة أن يكونوا عازمين على حرب فمنعوهم من دخولها ثم كانت خصومة انتهت بعقد أُبرم بين المسلمين وقريش يقضي بهدية وسلام فدخل بنو بكر في عقد قريش ودخلنا نحن في عقد المسلمين ثم رجع المسلمون واطمأَنت قلوبنا فلما دخل هذا العام رأينا من بني بكر خروجًا عن العقد فتعرضوا لنا وقتلوا منا بعضًا ورأَينا بني قريش يضافرونهم على ذلك فاعتبرنا هذا العمل نقضًا للعهد الذي كان معقودًا بينهم وبين المسلمين وكأني بالقرشيين ساعون إلى حتفهم بظلفهم فقد كانت مكة آمنة مطمئنة فعرضوها لهجمات المسلمين لأننا لما استفحل الأمر علينا ورأَينا القرشيين يعاونون البكريين علينا جئنا بهذا الجمع نريد المدينة لنبلغ ذلك إلى صاحب الرسالة الإسلامية.»
فقال سلمان: «وما ظنك بهِ بعد ذلك.»
قال: «أظنهُ يحمل على مكة برجالهِ فيفتحها عنوة وفى فتحها عزةٌ للمسلمين.»
فقال سلمان: «يظهر أنكم على دعوة صاحب الرسالة فهل أنتم مصدقون لما جاءَ بهِ.»
قال: «لقد جرَّنا الحديث إلى أمور طالما وددنا كتمانها ولكننا أصبحنا في حال لا نرى معها بدَّا من التصريح فإننا نرى صاحب هذه الدعوة صادقًا في دعوتهِ ولا نظنهُ إلا غالبًا ومما يدلنا على ذلك نصرتهُ في حروبهِ حيثما توجه.»
فعاد سلمان إلى ما هم فيهِ من أمر القرطين والأمير عبد الله فأخذ يفكر في وسيلة يستخدم بها تلك الفرصة فقال: «أما وقد آنسنا منك هذه الشهامة فهل ترى أن تهدينا إلى سبيل نتصل بهِ إلى أبى سفيان للبحث عن مولاي الأمير عبد الله.»
قال: «وما الذي عساي أن أفعلهُ في هذا القبيل.»
قال: «توصي بنا رجلًا من خاصتك نثق بإخلاصهِ وتعقلهِ ليدر بنا في مكة لأننا غرباءُ والغريب أعمى ولو كان بصيرًا.»
ففكر عمر ساعة ثم قال: «لي في مكة عمٌّ شيخ يقيم في الكعبة نهارهُ كلهُ وهو واسع الإطلاع نافذ الكلمة لدى أبي سفيان فإذا لقيتموه واستعنتموه في شأن هداكم إلى سواء السبيل واسمهُ حرب فإذا دخلتم مكة وجئتم الكعبة اسأَلوا عن حرب الخزاعي فإذا لقيتموه رأَيتم فيهِ شيخًا طاعنًا في السن فقولوا لهُ أن ابن أخيك عمر بن سالم يقرئك السلام فإذا وصفتم لهُ حالنا وما شرحتهُ لكم من أمر خزاعة وبكر علم أنكم صادقون في قولكم فاسأَلوه ما شئتم فانهُ خير مرشد لكم في ما تريدون.»
فنهض حماد عن ذلك وأثنى على عمر وودعاه وانصرفا إلى خيتمهما.
وبعد قليل نهض الركب الخزاعي ويمموا المدينة وقد سرَّ سلمان لتلك الصدفة وأمَّل أن ينال بها خيرًا.