فتح مكة
وباتوا تلك الليلة وأصبحوا في الغدّ فبكر سلمان إلى أكمة الأمس فأشرف على جيش المسلمين فسار إليهِ يستطلع الخبر فلم يكد يبلغهُ حتى رآه قد اصطف ومشى يتقدمهُ الفرسان وأصحاب الرايات وفيهم قبائل أسلم وغفار وأشجع وسليم وغيرهم فتأمل عددهم فإذا هو يزيد على عشرة آلاف وشاهد في الوسط موكبًا هائلًا في وسطهِ راحلة عليها رجل معتجر بشقة حمراء وعلى رأسهِ عمامة سوداء حرقانية واضعًا رأسهُ على رحلهِ وشاهد على الرحل ورأوه رجلًا رديقًا فعجب لذلك واشتاق لمعرفتهِ فرآهُ قادمًا من جهة الجيش فسأَلهُ عن هذا الموكب فقال: «أنهُ موكب رسول الله وإن الراكب هو الرسول نفسهُ قد جعل رأسهُ الشريف على رحلهِ وأردف أسامة بن زايد خادمهُ تواضعًا» فعجب سلمان لذلك المشهد البهِيج وقال في نفسهِ (لا عجب إذا نصر من كانت هذه خلالهُ) ثم سأَل الرجل عن عزمهم على الفتح فقال لهُ: «أنهم سائرون إلى مكة من أعلاها في تلك الساعة وإن فرقة منهم سائرة بإمارة خالد بن الوليد من أسفلها.» فهرول سلمان بأسرع من لمح البصر فاعترضهُ جموع القرشيين يتأَلبون للدفاع وفيهم الفرسان ولكن الفشل كان يتجلى على وجوههم وشاهد النساءَ ماشيات محلولات الشعور يستحثين الرجال بالأناشيد وفي أيديهنَّ الخمر يضربن بها وجوه الخيل تحريضًا وتوبيخًا فلم يزدد من تلك المناظر إلَّا رهبة وخوفًا وتحقق إذ ذاك أن المسلمين فاتحوها لا محالة فما زال سائرًا حتى أتى الخان فقال: «هيا بنا سيدي إلى المسجد فانهُ خير ملجأ لنا.»
فاقفلا الغرفة وهرولا حتى دخلا المسجد وجلسا في بعض جوانبهِ فرأَوا الناس هناك زرافات ووحدانًا وقد استولى عليهم الخوف.
وبعد ساعات قليلة ضج الناس في المسجد وهم يقولون: «لقد أقبل رسول الله ﷺ» فتحقق سلمان أن الفتح قد تمَّ للمسلمين فوقف ومعهُ حماد في موقف يرى النبي وهو داخل المسجد فما لبث أن سمع الناس يكبرون ورأَى النبي داخلًا على قدميهِ ووراءَه رجل من أصحابهِ آخذ بزمام ناقتهِ فطاف حول الكعبة سعيًا وفي كل مرة كان يأخذ الحجر الأسود بمجحفهِ والمسلمون يصيحون بالتكبير حتى زاد صياحهم فأشار إليهم أن اسكتوا.
وكان في المسجد ثلاثمئة وستون صنمًا لكل حي من أحياءِ العرب صنم قد شدوا أقدامها بالرصاص فجاءَ النبي وفى يده قضيب فجعل يهوى على كل صنم منها فيهوى على وجههِ أو قفاه وهو يقول: «جاءَ الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقًا.»
وكان سلمان وحماد ينظران إلى ذلك ويعجبان ثم رأَياه جاءَ إلى صنم كبير إلى جانب الكعبة كان قد عرفا أنهُ هبل الأكبر فكسره وكان في الكعبة صور شتى للأنبياء وفيها صورة إبراهيم وإسماعيل وعيسى عليهم السلام فأمر بماءٍ فمسحت كلها.
ولما تكسرت الأصنام وأمحيت الصور جلس النبي في ناحية المسجد وعلى رأسهِ شيخ وقور علم بعد ذلك أنهُ أبو بكر الصديق ثم أمر ففتحت الكعبة فدخلها والناس ينظرون فصلَّى فيها ركعتين.
ثم وقف على باب الكعبة والناس وقوف صامتون كأن على رؤُوسهم الطير فقال: «لا اله إلا الله وحده لا شريك لهُ صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.» ثم خطب خطبة طويلة ذكر فيها كثيرًا من الأحكام منها (لا يقتل مسلم بكافر ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين ولا تنكح المرأَة على عمتها ولا على خالتها والبينة على المدعي واليمين على من أنكر ولا تسافر المرأَة ثلاثة أيام إلَّا مع ذي حرم ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح ولا يصام يوم الأضحى ويوم الفطر) ثم قال: «يا معشر قريش أن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباءِ والناس من آدم من تراب.» ثم قال: «ماذا تقولون وماذا تظنون أني فاعل فيكم.» قالوا: «خير أَخ كريم وابن أَخ كريم وقد قدرت.» فقال: «أقول قال كما أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا فأنتم الطلقاء.» وقال أقوالًا أخرى أدهشت حمادًا وسلمان لما حوتهُ من الحكمة والموعظة فنظر سلمان إلى حماد وقال: «والله أني لأعجب لأناس قاوموا هذا النبي وهذه تعاليمهُ وأقوالهُ ولا ريب عندي أن سلطانهُ سيتسع حتى يعطي الأرض ويمحو دولتي الرَّوم والفرس.»
ثم إلتفت حماد فرأَى القرشيين يعتنقون الإسلام وهم يصلون ويهنئُّ بعضهم بعضًا وقد هدأَت الأحوال وآب الناس إلى السكينة وانطلقوا إلى منازلهم وإشغالهم فخرج سلمان وحماد إلى الخان.
فلما استتب بهما الجلوس هناك إلتفت حماد إلى سلمان فقال لهُ: «لقد شغلنا بهذه الأحوال عما جئنا من أجلهِ ولقد نظرت إلى الكعبة فعظم عليَّ أمر القرطين ولم أفهم أين موضعهما ولا كيف أستطيع الوصول إليهما وخصوصًا بعد هذه الحروب ودخول مكة في حوزة المسلمين.»
فقال سلمان: «ألم أقل لك يا سيدي أن عمك سامحهُ الله قد اقترح عليك أمرًا مستحيلًا ولكننا سنقابل الشيخ الخزاعي ونرى رأيهُ في الأمر وليس بعد الجهد حيلة.»
فقال حماد: «وقد فاتنا استطلاع أمر والدي من أبي سفيان.»
فتنهد سلمان ولم يجب.
فعجب حماد لسكوتهِ فقال لهُ: «ما بالك لا تجيب.»
فقال: «بماذا أجيبك وليس في الجواب فائدة.»
فقال: «ألعلك سألت عنهُ ولم تظفر بهِ.»
قال: «نعم يا مولاي أن سيدي ليس مع أبي سفيان فقد علمت أنهم فارقوه عند عمان ولم يروه من ذلك الحين.»
فانقبضت نفس حماد لذلك الخبر وبهت مدة لا يتكلم ثم قال والدموع تكاد تترقرق في عينيهِ: « أرى يا سلمان أن الله قد أعدَّ لنا أيام تعاسة ولا تنقضي والظاهر أن نجم سعدي قد أفل يوم خروجنا من البلقاء.» قال ذلك وتساقطت الدموع من عينيهِ على الرغم منهُ.
فتجلد سلمان وقال لهُ: «تشجع يا سيدي ولا تيأَس فإن الله لا يتركك ولا يهملك وأنت اينما تسعى في ما يأول إلى رفع منزلتك رغبة في إرضاء فتاة أنت تحبها وهي تحبك.»
فلما سمع كلمات سلمان تذكر هندًا وحبها وما آنسهُ من صنف الأمل في الحصول عليها فلم يتمالك عن البكاء وسلمان ساكت لا يرى ما يعزيهِ بهِ فقال لهُ: «أن البكاء شأن النساء يا سيدي وعهدي بك — حازم باسل لا تجزعك حوادث الأيام فاصبر أن الله مع الصابرين.»
قال: «أنا أعلم يا سلمان أن البكاء عار على الرجال ولكن الحب … آه من الحب آه من ثعلبة آه من جبلة..» وسكت
فأخذ سلمان يخفف عنهُ ويؤَملهُ بما سيسمعونهُ من الشيخ الخزاعي فسكت.