يوم الشعانين
فلما أتمَّ عبد الله حديثهُ هنأوا بعضهم بعضًا بالسلامة ثم قال حماد: «وأين فرسي الآن».
قال: «هو معي هنا فهل تريد أن تراه».
قال: «نعم» وخرجوا إلى بستان بالقرب من المنزل وكان الجواد مشدودًا إلى نخلة فلما وقع نظرهُ على صاحبهِ أخذ في الصهيل كأنهُ يرحب بقدومهِ وتقدم حماد إليه فلمس جبهتهُ وقبلهُ بين عينيهِ ثم عادوا جميعًا والفرح ملءُ قلوبهم إلاَّ حماد فأنهُ عاد إلى هواجسهِ في هند وأبيها والقرطين فلما وصلوا المنزل وجلسوا نظر عبد الله إلى حماد وقال لهُ: «العلك لا تزال مصممًا على الاقتران بهند».
قال: «نعم يا أبتاه ولا أظنني قادرًا على العدولْ عنهُ بعد أن كان ما كان».
قال: «وهل نسيت نذرنا لدير بحيراء؟»
قال: «وأي نذر؟»
قال: «نذر يوم الشعانين الذي سنقص فيهِ شعرك».
قال: «وما دخلهُ بمسأَلة الاقتران؟»
قال: «إن لهُ دخلًا كبيرًا لأني سأتلو عليك في ذلك اليوم حكاية وأطلعك على أمور ذات بال لها علاقة كبرى بأمر الزواج».
فخاف حماد أن يكون هناك ما يحول بينهُ وبين هند.
فقال: «وهل في ذلك السر ما يمنعني من هند؟»
قال: «لا أقدر على التصريح بشيء من ذلك الآن ولكن أحد الشعانين يكشف لك كل شيء».
فقال: «إن يوم الشعانين بعيد فهل يسوغ لنا استبدالهُ بسواه».
قال: «كلاَّ يا ولدي بل يجب علينا إتمام النذر حرفًا حرفًا» فوقع حماد في حيرة وأوجس خيفة لئلا يكون في قصة يوم الشعانين ما يحول بينهُ وبين هند فود أن يطلع على حقيقة ذلك ليعلم كيف يتصرف وقد كان عازمًا على البحيرة للبحث عن القرطين وكان يظن أن والدهُ سيكون أكبر مساعد لهُ على ذلك لكثرة أصدقائهِ هناك فأصبح بعد ما سمعهُ منهُ لا يستطيع مكاشفتهُ بالأمر لأنهُ قال لهُ صريحًا أن لا يخطوا خطوة في مسأَلة الاقتران قبل يوم الشعانين فصمت برهة يفكر في الأمر فخطر لهُ أن يستطلع سلمان على حدة لعلهُ يكون عالمًا بشيء من ذلك السر.
فانفرد بهِ في مسأَلة ذلك اليوم وسألهُ عما يعلمهُ من أمر يوم الشعانين.
فقال لهُ: «إن سر ذلك اليوم مكتوم عن كل بشر أعرفهُ وقد قضيت مع سيدي والدك أعوامًا منذ كنت طفلًا حتى صرت شابًا وأنا أسمع أنهُ نذر قص شعرك في دير بحيراءَ عندما تبلغ هذا السن وأنهُ سيطلعك في ذلك اليوم على أمور تهمك كثيرًا ويكون لها علاقة كبرى بمستقبل حياتك وأعترف لك إني بذلت قصارى جهدي في استطلاع شيء من ذلك السر فلم أتوفق وتراني أكثر رغبة منك في معرفتهِ فما لنا إلاَّ الانتظار إلى يوم الشعانين».
فقال: «وكيف أقضي هذه الأيام وماذا أفعل بهند. فقد أفصحت لك عن أمور أنت تعلم إني أكتمها عن سائر العالمين فهل يخفى عليك ما بيني وبين هند من المحبة والرابطة وقد تركتها على موعد من اللقاء فمضت سنة منذ تركتها ولم أفعل شيئًا مما تعهدت لها بهِ بعد فإن القرطين لم نقف لهما على أثر ولا أرى أن أعود إليها إلاَّ والقرطان في يدي وعلمت أن الأمل معقود بالتفتيش عنهما في العراق ولا نستطيع ذلك إلاَّ بمساعدة والدي وقد سمعت قولهُ الدال على رغبتهِ في إيقاف كل حركة قبل يوم الشعانين فكيف أقضي هذه المدة وأنا بعيد عن هند، أَتظنها لا تزال على عهدي؟»
قال سلمان: «أما ما عرفتهُ من حبها لك وثباتها في حبك فلا يترك محلًّا للشك في بقائها على عهدك وأنها لا يمكن أن تتحوَّل عنك يمنة ولا يسرة ولكنني أرى أن تكتب إليها كتابًا أو تنفذ إليها رسولًا تبثها ما عندك وتستمهلها في إنفاذ المهمة التي أنت سائر بشأنها وتطلب منها جوابًا ومن جوابها تفهم ما يكنهُ ضميرها».
فقال حماد: «وهل تظن والدي عازمًا على البقاء هنا إلى يوم الشعانين؟»
قال: «لا أظنهُ يطيل البقاء هنا لأن أهل المدينة لا يفترون عن الاستعداد للحروب أما لغزو أو لدفع مهاجم ولا وطر لنا في ذلك فالغالب أنهُ يفضل الذهاب إلى بصرى يقيم فيها بقية هذا العام».
قال: «فإذا كنا ذاهبين إلى بصرى فليس ثم حاجة إلى المخابرة لأني ألاقيها هناك وأجتمع بوالديها أو بأَحدهما وأتلو عليهما ما وقع فما عليك إلاَّ إقناع والدي بالذهاب بنا إلى البلقاء».
قال: «حسنًا ولكنك إذا أردت مقابلتها هناك فليكن ذلك على غير علم من والدك».
قال: «ننظر في ذلك» ثم افترقا وأخذ سلمان في تحريض مولاه عبد الله على الخروج من المدينة والإقامة بقية ذلك العام في البلقاء وخصوصًا لأن الحارث قد مات وخرج النفوذ من يدي ابنهِ ثعلبة.
فوافقهُ عبد الله على ذلك فقضوا بضعة أيام في المدينة يشاهدون ما أحدثهُ المسلمون فيها من الأبنية وأحسنها المسجد الجامع على أنهم كانوا يشاهدون في كل يوم شيئًا جديدًا من الإعدادات الحربية للغزو أو غيره مما زادهم تهيبًا لجند المسلمين وحسبوا لمستقبل دولتهم حسابًا كبيرًا.
ثم أخذوا في الاستعداد للمسير فودعوا حسْانًا فأرفقهم بدليل يعرفهُ وساروا يقطعون البراري والقفار حتى أتوا بصرى فتشاورا في مكان يقيمون فيهِ فاتفق رأيهم على الإقامة في دير بحيراء فاتخذوا فيهِ غرفة أقاموا فيها.
أما حماد فان عودتهُ إلى ذلك الدير أذكرتهُ أمورًا هاجت أشجانه فتذكر اجتماعه بهند هناك لأوَّل مرة وما كان من مجيء ثعلبة بغتة إلى آخر ما حدث في حينهِ ثم عزم على المسير إلى جبلة للسلام عليهِ ثم إلى صرح الغدير لملاقاة هند وبثها ما في ضميره وما بلغت إليه مهمتهُ وما يرجوه من العثور على القرطين في العراق ولكنهُ كان كلما تصوَّر وقوفهِ أمامها موقف المعتذر أو المستمهل اشمأزت نفسهُ وعسر عليهِ ذلك الموقف.