هند في صرح الغدير
فلنترك حمادًا ووالده وسلمان ولنعد إلى صرح الغدير لنرى ماذا تمَّ لهند بعد سفر حماد لئلاَّ يظن القارئُ أننا نسينا عواطفها وأشجانها ولم نبال بما قاستهُ أثناء غيابهِ من الوحشة والخوف عليهِ ولا سيَّما بعد أن سمعت بفتح مكة ودخول المسلمين إليها عنوة وهي تعلم أن حمادًا إنما سار إلى هناك التماسًا للقرطين.
ودَّعت هند حمادًا يوم سفره وقلبها واجف عليهِ لعلمها أنهُ سار في تلك المهمة والخطر ظاهر فيها ولكن ثقتها بشجاعتهِ وتعقلهِ هوَّنت عليها الأمر لأوَّل وهلة ثم اشتغلت عنهُ بالاضطرابات والمخاوف أثناء حرب مؤْتة وحمدت الله لغيابهِ خوفًا عليهِ أن يصاب بسوء إذا تعرض لسهام الحجازيين.
فلما انقضت الحرب وعادت البلقاء إلى السكينة عادت هي إلى الاضطراب واستبطأَت حمادًا لأنها كانت تتوقع رسالة منهُ أو خبرًا عنهُ فلما طال الأمد ولم تسمع عنهُ شيئًا انقبضت نفسها واستولت عليها المخاوف.
وكانت والدتها تراقب حركاتها وسكناتها وقد أدركت ما بها فأخذت تشاغلها بالآمال وتواسيها بالوعود وهي لا يهدأ لها بال ولا ترتاح إلى حديث على أنها كانت تعلل نفسها بالذهاب إلى دير بحيراء أيام مرور قوافل الحجاز بهِ لعلها تسمع من أحد حديثًا يطمئنها وصارت تستأْنس بالحجازيين وترتاح إلى كل قادم من الحجاز وخصوصًا الذين يقدمون من مكة ولكنها كانت كلما سمعت اسم الكعبة اختلج قلبها واضطربت جوارحها وهي مع ذلك لا يهدأَ لها بال إلاَّ بالسؤَّال عنها والبحث عن أخبارها حتى التقت يومًا بقافلة قادمة من مكة فسمعت الناس يتحدثون عن فتحها وما كان من دخول المسلمين إليها عنوة وقتل بعض أهلها فارتعدت فرائصها وتصورت حمادًا في تلك المدينة عرضة لسيوف المسلمين فازداد بلبالها وودت لو أنها تطير إلى الحجاز فترى ما تمَّ لحبيبها.
ثم رأَت ترددها إلى الدير واستماع تلك الأحاديث لا يزيدها إلاَّ قلقًا فانقطعت عنهُ وانزوت في صرح الغدير لا ترى أحدًا ولا تسمع خبرًا مخافة أن يكون في ما تسمعهُ نبأُ يسوءُها. ثم سمعت بموت الحارث بن أبي شمر والد ثعلبة فأحست بارتياح لعلمها أن مؤّتة يقلل من نفوذ ابنهِ لدى والدها. على أن ذلك لم يزد شيئًا من أسباب سعادتها فالهموم ما زالت تتراكم عليها وليس لديها من تشكو همها إليه غير والدتها لكنها كانت تخاف مخاطبتها بهذا الشأن لئلاَّ تسمع منها ما يزيدها يأسًا ففضلت الكتمان وهي مع ذلك لا تزداد إلاَّ تحولًا وانقباضًا وميلًا إلى الخلوة.
وكانت كلما خلت بنفسها نظرت إلى الأساور في يدها وجعلت تقبلها وتتنسم منها رائحة حماد فإذا اشتد بها الهيام بكت وتحرَّقت ونقمت على والديها لأنهما أبعدا حمادًا عنها وخيل لها أنهما إنما أرسلاه إلى تلك الأصقاع للتخلص منهُ وما زال هذا الفكر يتمكن منها حتى أصبح بمنزلة الاعتقاد وصارت تنفر من مجالسة والدتها وتسئُ الظن بها فلم يزدها ذلك إلاَّ رغبة في الخلوة والانقطاع عن الناس.
وأما والدتها فقد كانت لنباهتها وحدة ذهنها لا تغفل عن خاطر يمرُ في ذهن ابنتها وكانت تعذرها على ذلك لأنها شعرت هي أيضًا بارتكابها أمرًا قبيحًا بإرسال حماد في مهمة خطرة إلى هذا الحد. وقد زاد ندمها خبر وفاة الحارث بن أبي شمر وضعف نفوذ ثعلبة مع كره هند لهُ فتحققت عند ذلك أن هندًا يستحيل عليها الاقتران بهِ وقد أَصبح بعد موت والده وضيع المنزلة ولم يعد جبلة يخشى بطشهُ لو ردَّ طلبهِ.
فأصبحت سعدى بسبب ذلك شاعرة بخطأ فظيع ارتكبتهُ أمام ابنتها فأحرمتها شهمًا يحبها وتحبهُ وصارت هي أكثر رغبة من هند في عود حماد وصممت في باطن سرها على أنهُ إذا عاد ولو خائبًا لتساعدنَّهُ في الحصول عليها ولو أبى والدها. على أنها لم تكن تستحسن مخاطبة هند بهذا الشأن لئلاَّ توطد آمالها ثم ربما لا يعود حماد من الحجاز فيكون ذلك سببًا في زيادة أحزانها فصبرت نفسها لترى ما يأْتى بهِ القدر ولكنها ما برحت تتنسم الأخبار لعلها تسمع شيئًا جديدًا.
أما جبلة فقد كان في البلقاءِ مشتغلًا عن مثل هذه الأمور بما كان من الحرب في مؤّتة فما عتم أن رجع المسلمون حتى توفي الحارث فزاد اشتغالهُ وعظم اهتمامهُ بضم قبائل العرب في الشام والبلقاء إليه لأن العرب المتنصرة هناك قبائل وبطون لكل منها راية وأمير وكانت في زمن الحارث منقسمة إلى فئتين إحداهما تابعة للحارث والأخرى لجبلة فلما توفي الحارث اشتغل جبلة بضم بعض قبائل الحارث إليه إن لم يكن كلها ولم يطمع بذلك إلاَّ لعلمهِ بضعف ثعلبة عن القيام بما قام بهِ والده قبلهُ ولاعتقاده أن أمراءَ القبائل أنفسهم يكرهون ثعلبة لدناءَتهِ وشراسة أخلاقهِ. فوقع بسبب ذلك تنافر بين جبلة وثعلبة وأحس هذا بضعفهِ وخاف العاقبة لكن سوء خلقهِ لم يهدهِ إلى سبيل يسترضي بهِ عمهُ فأخذ يطعن فيهِ أمام الأمراءِ يريد تحقيره في أعينهم فلم يحتقروا إلاَّ ثعلبة وبلغ ذلك جبلة فحقدها عليهِ وزاد سعيهُ حتى أخرج كل العرب الغساسنة من حوزتهِ ولم يترك لهُ منهم إلاَّ شرذمة قليلة.
فازداد ثعلبة لوْمًا وسفاهة وأخذ يطعن في جبلة وابنتهِ وسائر أهل بيتهِ فندم جبلة لما وقع منهُ في حق حماد وأسف لإنفاذه في تلك الرسالة الخطرة ولم يزدد مع الزمان إلاَّ ندمًا ولكنهُ كتم ندمهُ ينتظر ما يجئُ بهِ القدر ولكنهُ صمم في باطن سره إن يكفّر عما ارتكبهُ في حق حماد بأن يزوجه بابنتهِ سواء عاد بالقرطين أو بدونهما فضلًا عما في ذلك من الكناية في ثعلبة.