هند والقمر
وما زالت هذه حال هند حتى كاد ينقضي العام ولم تسمع عن حماد خبرًا فترجح لديها أنهُ إما قتل أو فشل وشقَّ عليهِ الرجوع خائبًا فهاجر إلى مكان بعيد أو لعلهُ فتك بنفسهِ فرارًا من أثقال الفشل وتخلصًا من عذاب الحب فتراكمت عليها الهموم. وفي ذات يوم قضت هند نهارها في مثل هذه الهواجس ووالدتها تسارقها اللحظ وتغتنم فرصة لتخاطبها وهي تتجاهل وتبتعد فلما سدل الليل نقابهُ دخلت إلى غرفتها وأوصدت الباب وراءها وجلست إلى النافذة المطلة على الحديقة وألقت جنبها على وسادة وجعلت رأْسها على كفها وكانت الليلة مقمرة والجو صافيًا والبدر عند أول بزوغه من وراء التلال وقد أرسل أشعته على الأودية والجبال. فأخذت تتأَمل بما أحدثهُ من الأظلال الطويلة على السهول والبساتين ونظرت إلى حديقة القصر فرأت أشجارها متشامخة تناطح السحاب لكن أظلالها أطول منها كثيرًا وقد وقعت تلك الأظلال على ما هنالك من أغراس الريحان وغيره من أنواع العطريات فحجبتها عن البصر ولكنها لم تحجب رائحتها فتضوع القصر منها. وقد هدأت الطبيعة وأوت الطيور إلى أوكارها وسكنت الرياح فلم تسمع إلاَّ خرير ماء الغدير في وسط البستان ونظرت إلى ضفاف ذلك الغدير فرأت أشجار الحور مرتبة صفوفا كأنها عذارى جئن للاستقاء فهالهن سكون الطبيعة فبهتن ووقفن على ضفاف الغدير صامتات.
فما برح القمر أن اعتلى وظهر وجههُ واضحًا فاستقبلتهُ هي وجعلت تتأملهُ فأحست بارتياح إلى منظره فتذكرت ارتياحها إلى رؤْية حبيبها فاختلج قلبها فعادت إلى الانقباض فأَرسلت نظرها إلى القمر لعلها تسترجع ذلك الارتياح فامتنع عليها.
ولكنها ما لبثت أن تأَملت وجه القمر حتى ترقرقت الدموع في عينيها وأخذت تخاطبهُ قائلة: «ألعلك مشرق الآن على منازل مكة وجبالها ألعلَّ حبيبي هناك ينظر إليك ويستقبلك بوجههِ ليتهُ يفعل ذلك فيلتقي طرفانا عندك فنجتمع على بعد الدار.
نعم إني أرى على وجهك صورة كأنها ظل وجههِ فهل يرى هو مثل ذلك أيضًا.»
ثم عادت إلى البكاء فأطلقت لنفسها العنان حتى لم يتمالك عن الشهيق وهي تظن نفسها منفردة لا يسمعها أحد ولكنها ما لبثت أن سمعت قارعا يقرع الباب فعلمت أنها والدتها سمعت صوت بكائها فجاءَت لتعزيتها فودت البقاء في خلوتها فتظاهرت بالنوم ولم تنهض لفتح الباب فقرعت والدتها الباب ثانية وألحت عليها أن تفتحهُ فمسحت عيونها ونهضت ففتحت الباب ولم يكن في الغرفة نور غير ضوء القمر الداخل من النافذة فدخلت سعدى وهَّمت بهند وضمتها وجعلت تقبلها وتنظر إلى وجهها لتحقق بكاها وهند صامتة مطرقة لا تبدي حراكًا فقالت سعدى ما بالك يا ولداه ما الذي يبكيك لماذا لا تشكين إليَّ همك ألستُ والدتك أما أنت ولدي وفلذة من كبدي إلاَّ تعلمين أنني أحبك.
فلبثت هند صامتة ولكنها نظرت إلى والدتها بطرف عينيها نظرة التأنيب ولم تفه بكلمة ففهمت سعدى أنها توبخها لما ارتكبتهُ بشأن حماد ولكنها أرادت مغالطتها فأخذتها بيدها إلى السرير وأجلستها إلى جانبها وقالت ما بالك لا تجيبينني يا هند أتكتمين عني شيئًا ألم أكن خزانة أسرارك قولي يا ولداه ما يبكيك.
فنظرت هند إليها وكان ضوء القمر واقعًا على وجهها فرأت سعدى الدموع تتلألأ وهي ساقطة من عينيها فانفطر لها قلبها وهمَّت بها ثانية وضمتها وتناولت منديلها وجعلت تمسح لها الدموع فحوَّلت هند وجهها نحو النافذة وتنهدت وهي تنظر إلى القمر وضوءَهُ على السهول والجبال.
فنهضت سعدى ووقفت معترضة بينها وبين النافذة وقالت لها: «قولي يا ولداه ما الذي يبكيك لقد قطعت قلبي ولم يعد لي صبر على بكاك إلاَّ تعرفين قلب الوالدة».
فوقفت هند ثم مشت نحو النافذة ووالدتها تعترضها وتمسك يدها ثم وقفت وقفة من ينتظر جوابًا. فنظرت هند إليها شذرًا وقالت: «نعم يا أماه إني أعرف قلب الوالدة ولكن الوالدة لا تعرف قلب ابنتها».
فأدركت سعدى مرادها فقالت: «ومن قال لك يا هند إني لا أعرف قلبك».
فقالت: «لو عرفت قلبي ما سببت لي هذا الشقاء لأني أعرف حنوك».
قالت: «كيف لا أعرف قلبك يا ولداهُ وقد كشفتِ لي غوامض أسراره».
قالت: «إذًا عرفت حالهُ ولم تشفقي عليهِ فلا بأْس سامحك الله وسامح والدي و …» وشرقت بدموعها.
فابتدرتها سعدى وأظهرت الاستغراب قائلة كيف تقولين ذلك يا هند كيف لم نشفق على قلبك وكل ما حصل إنما حصل بمصادقتك ورضاك لما فيه من الفخر لك.
فهزَّت هند رأسها وهمت بالجواب ثم سكتت فاتمت والدتها الكلام قائلة ومع ذلك فإن الأحوال قد تغيرت بموت الحارث وإذلال ثعلبة فسواء جاءَ حماد بالقرطين أم جاءَ بدونهما فليس ثم من يقف في سبيلهِ.
فلما سمعت اسم ثعلبة ارتعشت جوارحها فقالت: «آه يا أماه لقد قضي الأمر.. أين حماد الآن … آه أين هو. هل تعلمين أين هو وقد انقضى العام منذ سار من هذا المكان ولم نسمع عنهُ شيئًا». ثم حولت وجهها نحو النافذة وقالت وهي تبكي: «آه يا حماد آه يا حماد سامح الله من كان سببًا في بعادك … إبكي يا أماه على هند ابكيها وارثيها ولا يتعب ضميرك أو تندمي على ما حدث لي ولهُ على يدك ويد والدي إنما هي الأقدار قد كتبت علينا هذا الشقاء». ثم قالت وقد غلب عليها الشهيق وعلا صوتها: «آه يا حماد حبيبي أين أنت الآن ألعلك على الأرض أم في السماء أم أين أنت من يخبرني بمكانك لكي أطير إليك فإما أن أعيش بقربك أو أن أدفن تحت قدميك فقد كفاني ما سببتهُ لك من الشقاء وما جزاءُ عمْلي هذا غير الموت. الموت الموت!..».
قالت ذلك ورمت بنفسها على السرير ووالدتها لا تزال ممسكة بيدها تحاول تلطيف ما بها فلما ألقت نفسهُا خافت سعدى أن يغمى عليها فبادرت إلى الماء لترشها بهِ وأمسكتها بيدها وجعلت تخاطبها وقلبها يتقطع ولولا اشتغالها بتعزيتها لكانت هي المغمى عليها لا محالة ولكن اشتغال الإنسان بمن يحبهِ ينسيهِ نفسهُ. فهمت بها وخاطبتها فتحققت أنها لم يغمَ عليها فحاولت إجلاسها وجعلت تقبلها وهند مشتغلة بالبكاء والشهيق ويداها على وجهها.
فرأَت سعدى أن تتركها هنيهة ريثما يهدأُ روعها فلبثت صامتة مطرقة تفكر في أمرها حتى إذا آنست منها سكينة وهدوءًا جاءَت بكأس من الماء وقدمتهُ إليها لتشرب فشربت وهي مطرقة خجلًا لما ظهر من عواطفها رغمًا عنها.
فابتدرتها والدتها قائلة: «خففي عنك يا ولداه فإنك مثال التعقل والرزانة عندنا فكيف أطلقت لنفسك العنان».
فظنت هند أنها توبخها فقالت: «كفاني توبيخًا فقد علمت إني أتيت أمرًا يعاب عليهِ أمثالي ولكن الكأس قد طفح والأمر نفد».
قالت سعدى: «لم ينفد شيء بعد يا هند إن حمادًا نصيبك وقد قلت لك سواء جاءَ بالقرطين أم لا فأنهُ لك وأنت لهُ».
فتنهدت هند وقالت: «هذا إذا قدَّر لنا أن نراه ولا أظنهُ إذا فشل في مهمتهِ إلاَّ ضاربًا في بطن الأرض ولا يعود إلينا صفر اليدين».
قالت: «تدبري الأمر بالصبر والحكمة واتكلي على الله انهُ قادر على كل شيء وهلمَّ بنا نصلي ونطلب إليه تعالى أن يعيده سالمًا».
فتأَملت هند في حديث والدتها فترجح عندها أنها تقول الصدق بشأن حماد واقترانهِ بها سواء جاءَ بالقرطين أما لا فسرَّها ذلك ولكنها أرادت أن تستطلع ما يكنهُ والدها من هذا القبيل فقالت لوالدتها: «هبي أنك رضيت بذلك شفقة على صباي فهل يرضى والدي بهِ».
قالت: «إن والدك أكثر رغبة مني في الأمر وخصوصًا بعد أن وقع ما وقع بينهُ وبين ذلك الخائن من النفور على أثروفاة والده الحارث فطيبي نفسًا وقري عينًا واتكلي على الله ولنطلب إليه تعالى أن يحفظ لك خطيبك ويعيدهُ إليك سالمًا معافى وننسى أتعابنا».
فسكن روع هند وسارت إلى فراشها وسلمت أمرها إلى الله.