حمَّاد وهند
وفي مساء ذلك اليوم خاطب حماد والده في أمر هند وقال لهُ: «إن وفاة الحارث ربما سهلت أمر اقترانهِ وربما عدلوا عن طلب القرطين» وأظهر حماد سروره بذلك فلم يجب عبد الله بكلمة.
فقال حماد: «ألم تسر يا سيدي بذلك؟»
قال: «إني أسرُّ لسرورك ولكنني لا أزال ألح عليك بالاقتصار في هذا الموضوع ريثما يأتى يوم الشعانين ونفي نذرنا».
قال: «أعاهدك بأني لا أباشر أمرًا قبل مجيء ذلك اليوم ولكننى عازم في صباح الغد على الذهاب إلى الصرح لأشاهد هندًا ووالدتها لأجل الاطمئنان وأظنهم يودون مشاهدتك».
قال: «دع ذلك لبعد يوم الشعانين أما أنت فاذهب لمشاهدة أهل صرح الغدير واحذر أن تمضي أمرًا».
قال: «حسنًا يا مولاي».
وفي صباح اليوم الثاني ركب حماد باكرًا وركب سلمان معهُ وسارا قاصدين الصرح.
أما هند فأنها لم تنم ليلتها تلك لعظم تأَثرها فرحًا بقدوم حماد إلاَّ عند الفجر فأغمض جفناها فنامت هنيهة فأفاقت والشمس قد طلعت فظنت نفسها قد أبطأَت في الفراش وخافت أن يأتي حماد وهي نائمة فنهضت ولم يؤثر فيها السهر شيئًا لتنبه عواطفها فاغتسلت ولبست ثيابها وعادت إلى غرفتها وفيها نافذة تشرف على طريق بصرى فجلست إليها وعيناها شائعتان نحو الأفق لعلها ترى حمادًا قادمًا وكانت كلما رأَت شبحًا أو ظلًا أو سمعت صوت صهيل أو وقع أقدام خفق قلبها ولا يكاد يحدث في الصرح صوت إلاَّ سمعتهُ كأنها كلها آذان لعظم تأثرها.
أما سعدى فقد كانت توصي الخدم في إعداد ما يلزم للضيافة من الذبائح ونحوها فلما فرغت من ذلك فكرت في هند وما يكون من حالها عند ملاقاتها حمادًا بعد طول غيبتهِ فخافت من شدة تأثرها لئلاَّ يظهر منها ما تعاب عليهِ أو يؤثر في صحتها فرأت أن تسير إليها وتشاغلها لتذهب ما بها من قلق الانتظار فجاءتها فإذا هي في مثل ما خافتهُ عليها.
فلما سمعت هند وقع أقدام والدتها كادت تبغت لولا تعودها سماع ذلك فاستقبلت والدتها باشة فابتدرتها سعدى قائلة: «ما بالك منفردة يا هند أظنك تتمنين عدول حماد عن المجيء».
فضحكت ولم تجب.
فقالت: «هيا بنا إلى الحديقة نتنسم رائحة الأزهار لأن بقاءك هنا ممل» قالت ذلك وأمسكت بيدها ومشتا حتى نزلتا إلى البستان وأوغلتا بين الأشجار وهند تسارق النظر من بين الشجر لعلها ترى حبيبها قادمًا ولكن والدتها سارت بها في الحديقة حتى غابت عن الطريق وكانت هند إنما تمشي مجاراة لها وقلبها يحدثها بالرجوع إلى القصر لئلاَّ يصل حماد أثناء غيابها.
وفيما هما في ذلك سمعتا صوت صهيل عرفت هند حالًا أنهُ صهيل جواد حماد فخفق قلبها فنظرت إليها سعدى متجاهلة فإذا هي قد بغتت وهمت بالرجوع.
فقالت لها: «دعينا هنا فأنهُ لا يلبث أن يأتى فنراه» وقد أرادت سعدى أن يكون الملتقى على انفراد مخافة أن يحدث في أثناء ذلك الاجتماع ما لا يستحسن اطلاع أهل القصر عليهِ.
فسكتت هند ولكنها ما فتئت تنظر من خلال الأشجار نحو باب الحديقة تنتظر مجيء حماد بفارغ الصبر ولم تمض هنيهة حتى رأتهُ قادمًا وعلى رأسهِ الكوفية والعقال وقد تقلد الحسام تحت عباءَة حريرية مزركشة بالقصب فلما وقع نظرها عليهِ زاد خفقان قلبها واصفر وجهها ثم ما لبثت أن علتهُ الحمرة وظلت واقفة. أما والدتها فتقدمت حتى التقت بحماد فسلمت عليهِ فهم بتقبيل يدها احترامًا فمنعتهُ وهند لا تزال واقفة وقلبها يحدثها بالمسير نحوه ولكن الحشمة والحياء منعاها.
أما هو فأسرع نحوها ومد يده مسلمًا ووجههُ يطفح سرورًا وعيناه شاخصتان إليها تتقدان ذكاءَ وهيامًا.
فمدت يدها وهي تنظر إلى الأرض خجلًا ولكن الابتسام غلب عليها ولما أمسكت يدهُ شعرت بقوة انبثت في كل أعضائها ثم توردت وجنتاها وأبرقت أسرتها كأن تلك القوة مجرى كهربائى انتشر في أعضائها ثم انحصر في وجهها فأضاء. فقال حماد: «كيف أنت يا هند لقد أطلتُ الغيبة عليكم ولكنني عدت مع ذلك بخفي حنين».
فغلب عليها الحياء ولكنها نظرت إليه بعينين براقتين تنبعث أَشعة الهيام منها وقالت لا حاجة بنا إلى الخفين ولا القرطين وإنما حاجتنا إلى عودتك سالمًا فالحمد لله على ذلك. قالت ذلك ودموع الفرح تتناثر من عينيها وهي تبتسم فأرادت إخفاءَ دموعها فتحولت نحو شجرة بالقرب منها تحتها مقعد من حجر للجلوس وتحول حماد وسعدى والكل سكوت ولكن قلبي العاشقين يتكلمان أو لعلهما يضحكان فقط ولو تركا على انفراد لانطلق لساناهما وتعاتبا وتغازلا ولكن وجود سعدى حملهما على الاكتفاء بحديث القلبين.
ولما استقر بهم الجلوس قالت سعدى: «لقد أطلت الغيبة علينا فانشغل بالنا كثيرًا ولما سمعنا حكاية سفركم من سلمان حمدنا الله على عودتك سالمًا بعدما قاسيتهُ من الخطر».
قال: «لا يهمني من أمر سفرتي هذه شيء ولا أحسبني أتيت أمرًا ولا تحملت شقاء طالما كان سفري عقيمًا وإن يكن ذلك لغير قصور مني لأن السبب فقدان القرطين من الكعبة أثناء هدمها وبنائها أما أنا فاني عازم على مواصلة البحث عنهما في العراق أو غيرها حتى أتي بهما».
فابتدرتهُ هند قائلة: «لا لا لا حاجة بنا إلى الأقراط فإن عندنا من فضل المولى ما يكفينا مؤونة هذه الأسفار».
قال: «وماذا يقول الناس عني وقد عدت صفر اليدين أليس عارًا على حماد أن يرجع خائبًا عن أمر طلبتهُ هند!!» قال ذلك وعيناه تنظران إلى هند ويكاد النور ينبثق منهما.
فالتفتت هي إليه وقالت وهي تبتسم: «لا لم يعد حماد خائبًا لأنهُ جاهد في سبيل القرطين جهادًا حسنًا ولا يزال ساعيًا في التفتيش عنهما في خزائن الحيرة ولكننا نحن حولناه عن عزمهِ فما ذلك من قبيل الخيبة لا سمح الله».
ثم قالت سعدى: «إن أمر القرطين يا ولدي لا يهمنا مطلقًا فمثل هذه الأقراط كثير عندنا من نعم الله. من ذلك لؤلؤتان معلقتان بتاج الملك جبلة هما مثل لؤلؤتي قرطي مارية تمامًا حتى لقد يحسبهما الناس نفس القرطين».
قال حماد: «إني لا أَجهل نعم الله على ملوك غسان زادكمْ الله نعمًا ولكنني وددت أن أجعل لي سبيلًا أستحق بهِ هندًا فان نسبي وحدهُ ولا حسبي يخولانني هذا الشرف ولكن ذلك أَحسبهُ من جملة كرم الغسانيين على الغرباء». قال ذلك وتبسم والتفت إلى هند فإذا هي تبتسم أيضًا وتنظر إلى الأرض.
فالتفتت سعدى إليه وقالت: «إن النسب يا ولدي لا يجعل الإنسان إنسانًا وإن الرجل بأصغريهِ لا ببرديةِ فان ما شاهدناهُ من شهامتك وكرم أخلاقك لجدير بأن يرفع منزلتك إلى أوج الملوك وكم من ملك تحطهُ دناءَتهُ إلى مصاف الصعاليك وشاهدنا على ذلك قريب». قالت ذلك ونظرت إلى هند كأنها تذكرها بدناءَة ثعلبة والمقابلة بينهُ وبين حماد فأدرك حماد ذلك فأطرق خجلًا لما سمعهُ من الأطناب ولكن قلبهُ رقص طربًا لتخلصهِ من أمر القرطين وتمثل لهُ ملاك السعادة طوع إرادته فأبرقت أسرتهُ ثم تذكر يوم الشعانين وتأخير الاقتران بسببهِ فانقبضت نفسهُ على إن اجتماعهُ بهند في تلك الساعة أنساه كل انقباض. ثم أتمت سعدى كلامها قائلة: «أرى على ثيابك أثر الغبار الا تحتاج إلى تبديل وغسيل فإذا شئت هلم بنا إلى القصر».
قال: «لا أشعر بتعب وان الغسيل والتبديل أمران مستدركان ولكن الجلوس في هذه الحديقة بين الأشجار ومجاري المياه والاستظلال تحت هذه الشجرة مما ترتاح إليه نفسي. ولا أخفي على سيدتي إني لم أكن أرجو مثل هذا الاجتماع بعد ما قاسيتهُ من المشاق ولا أنسى يومًا قضيتهُ في مكة على سطح غرفتي لا أذكر يومًا كنتْ فيهِ كما كنت في ذلك اليوم لا أعادهُ الله».
قالت هند: «وكيف كنت؟»
قال: «لا فائدة من ذكر ذلك غير الكدر ولكنني أمثل لك الأمر تمثيلًا. تصوري إني ركبت متن الأسفار وقطعت البراري والقفار للبحث عن قرطي مارية مهرًا لحبيبتي هند والتفتيش عن والدي فنزلت بلدًا شهدت فيهِ حربًا وخطرًا ثم تحققت فقدان القرطين وضياع والدي فلما تراكمت كل هذه المصائب عليَّ صعدت إلى سطح غرفتي وقد ضاق صدرى وتذكرت هندًا ووالدي وما أنا فيهِ من اليأس فماذا تكون حالي».
فقالت سعدى: «لقد سرَّنا العثور على والدك هل هو في خير وهل ينوي زيارتنا فاني أحب تعريفهُ بالملك جبلة ليتم سرورنا فقد زالت كل الحواجز وتمهدت كل العقبات والحمد لله».
فتذكر حماد مسأَلة النذر وحكاية يوم الشعانين فقال في نفسهُ (لم تزل أمامنا عقبة لا ندري ما وراءها) ولكنهُ أجاب سعدى قائلًا: «أن سيدي الوالد يسرُ كثيرًا بمقابلة الملك جبلة وهو شرف يتمناه أمثالنا ولكنهُ الآن في شاغل وسيغتنم أول فرصة لمقابلة سيدي الملك وأنا كذلك».