قصُّ الشعر
وكان عبد الله كلما دنا ذلك اليوم زاد انقباضًا حتى قيل غدًا يوم الشعانين فعلم أن الدير سيكون مزدحمًا في ذلك اليوم وهو إنما يلتمس الانفراد بحماد ليتلو عليهِ الحكاية فسار إلى رئيس الدير وأطلعه على قصده.
فقال: «وأي الغرف تريدون؟»
قال: «نريد صومعة بحيراء نفسها فإنها منفردة وفيها كرامة وبركة».
قال: «ولكن الناس يقدمون إليها في مثل هذا اليوم زائرين».
قال: «يزورونها بعد خروجنا منها فربما مكثنا فيها ساعات قليلة من الصباح إلى الظهر». وكان عبد الله جليل الطلعة محترمًا فأذعن لهُ الرئيس.
ثم قال عبد الله: «اعرف راهبًا شيخًا من تلامذة بحيرا الراهب صاحب هذا الدير كان يقيم في الصومعة فهل هو باق هنا».
قال: «أنهُ باق ولكنهُ يشكو شدة الضعف لشيخوختهِ فلا يخرج من غرفتهِ إلاَّ نادرًا».
قال: «إلاَّ تظنهُ يخرج في صباح الغد إذا توسلنا إليه أن يرافقنا إلى الصومعة ويقص شعر غلامنا».
قال: «لا أعلم ولكن عندنا من الرهبان والقسس كثيرين يفعلون ذلك».
قال: «صدقت ولكنني أفضل ذلك الراهب الشيخ لأني أعرفهُ».
قال: «هلمَّ بنا إليه نسألهُ فعساه أن يرضى».
وسارا إلى غرفة من غرف الدير مغلقة الباب فقرعاه وانتظرا ريثما ينهض الشيخ لفتحه وبعد هنيهة فتح الباب وبان من ورائه شيخ هرم قد ابيض شعره بياضًا ناصعًا واسترسل من رأسهِ ولحيتهِ وحاجبيهِ وشاربيهِ حتى لا تكاد ترى من جلد وجههُ إلاَّ بعض وجنتيهِ وقد تجعدتا وتثنت جبهِتهِ وبرز أنفهِ أعقف وأحدودب ظهره حتى لا يستطيع النظر إلى واقف أمامهُ إلاَّ بجهد وعناية فتقدم الشيخ ويده الواحدة على الباب ويده الأخرى يتوكأ بها على عصا قديمة العهد ربما رافقتهُ في صباه وقد قبض عليها بأنامل لم تترك الشيخوخة عليها لحمًا فلصق الجلد بالعظم حتى كان اعرض ما في الكف عقد الأمشاط عند اتصالها بالأصابع.
فلما فتح الباب رفع الشيخ نظره وحدق بزائريهِ وكان قد عرف الرئيس من مجمل قيافتهُ ولكنهُ لم يعرف رفيقه فنظر إليه نظر المتأَمل وشعر حاجبيهِ المسترسل يحجب معظم النظر عنهُ فأرسل يده يرفع بها شعر الحاجبين وهي ترتعش لضعف الشيخوخة فابتدره عبد الله بالسلام وهمَّ بتقبيل يديه فعرفه الراهب فقال: «أهلًا بولدنا الأميرعبد الله ابن الوطن العزيز تفضل يا ولدي ادخل». فدخل ودخل الرئيس معهُ وجلس كل منهما على وسادة وهما لا يحسران على فتح الحديث احترامًا لشيخوخة الراهب.
ثم تكلم الرئيس فقال: «إن ولدكم الأمير عبد الله يلتمس حضوركم الاحتفال بقص شعر ابنهِ وفاء لنذر نذره منذ بضع وعشرين سنة».
فتأمل الشيخ برهة ثم رفع نظره إلى عبد الله بغتة والنور ينبعث من حدقتيهِ في خلال شعر الحاجبين كأن الزمن لم يؤَثر على حدتهما وقال: «ما اسم غلامكم؟»
قال: «حماد».
قال: «نعم حماد أذكر أني رأيتهُ في الصومعة منذ عامين وأخبرني أنهُ جاء لقص شعره وكان يوم الشعانين قريبًا ألم تفوا النذر بعد».
قال: «لا يا مولاي لم نستطع ذلك لأسباب فرَّقت بيننا أعوامًا فلما اجتمعنا جئنا لنفي النذر فهل تريد أن يكون وفاؤُه على يدك».
قال: «إنني شيخ ضعيف لا أستطيع الوقوف لتأدية الفروض اللازمة أثناء الصلاة».
قال: «يؤديها القسيس وتكون أنت معنا بعد الصلاة فننفرد أنا وأنت وحماد لكلام أقصهُ عليكما».
قال: «حسنًا يا ولدي ومتى يكون ذلك؟»
قال: «غدًا صباحًا إن شاءَ الله».
قال: «سنلتقي إذًا صباح الغد في الصومعة» قال ذلك وهو يتلاهى بمسبحته ويداهُ ترتجفان.
ثم نهض عبد الله فودع الراهب وخرج توَّا إلى غرفتهِ وجلس ينتظر عودة حماد.
وكان حماد يختلف إلى صرح الغدير مرارَّا في الأسبوع يتمتع برؤْية هند فيقضى النهار عندها مع والدتها وأحيانًا سلمان وقد شعر إن ملاك السعادة يحرسهُ وخصوصًا بعد ما قصهُ عليهِ جبلة مما ينويهُِ لهُ في مستقبل حياتهِ وأصبح لا همَّ لهُ إلاَّ مجيء يوم الشعانين ليفي النذر ويقترن بهند على أنهُ كان إذا جلس إليها ودار الحديث بينهما نسي النذور وغفل عن مستقبل الأيام. أما والده فلم يجتمع بجبلة وكان حماد يلتمس ذلك منهُ أحيانًا فينتحل أعذارًا يتخلص بها من المسير.
فلما كان آخر يوم كما قدمنا عاد عبد الله إلى غرفتهِ وجلس ينتظر حمادًا وكان قد سار إلى صرح الغدير في صباح ذلك اليوم وسلمان معهُ فعاد في الأصيل على فرسهِ وسلمان وراءه على فرس آخر فلما وصلا الدير ترجلا ودخلا وهما يتوقعان أن يكون عبد الله في انتظارهما فرحب بحماد وقال لهُ: «إلاَّ تعلم يا ولدي إن غدًا يوم الشعانين».
قال: «نعم يا أبتاه وإني في استعداد لوفاء النذر».
قال: «جعلهُ الله نذرًا مقبولًا. وقد خاطبت الراهب الشيخ الذي كان يجلس في صومعة بحيرا هل تذكرهُ؟»
قال: «نعم أذكر إني جلست إليه مرة وقص عليَّ خبر الراهب بحيرا أستاذه».
قال: «قد خاطبتهُ في أن يقص شعرك ويسمع ما أتلوه عليك بعد ذلك».
وكان سلمان لا يزال واقفًا بالقرب من الباب يصلح كوفيتهُ وعقالهُ وكانا قد انحلاَّ وهو يتحول عن جواده فلما سمع ما قالهُ عبد الله تقدم نحوه ونظر إليه قائلًا: «إلاَّ تظن خادمك سلمان يستحق الاطلاع على هذا السر أيضًا».
قال: «بلى انك أولى الناس بذلك وستكون أنت أيضًا معنا».
وقضوا بقية ذلك اليوم يعدون أنفسهم وخصوصًا عبد الله فأنهُ مال إلى الانفراد يعدُّ بعض الثياب.
وفي صباح اليوم التالي ساروا إلى الصومعة باكرًا فرأوها مضيئة بالشموع وهي كما تعلم عبارة عن غرفة كل من جدرانها الأربعة حجر واحد والسقْف حجر والأرض حجر وبابها حجر واحد يفتح ويغلق وهذا هو شأن أبنية حوران حتى الآن نظرًا لكثرة صخورها وقلة خشبها فيبنون البيوت من الحجر ويجعلون درف نوافذها وأبوابها وسقوفها من الحجر أيضًا.
فدخلوا الصومعة فرأَوا الراهب الشيخ ومعهُ قسيس آخر وشماس فلما اجتمعوا جميعًا أخذوا في الصلاة فاحرقوا البخور وحلوا شعر حماد حتى استرسل على ظهره وكتفيهِ وطافوا بهِ بالترانيم والتسابيح على جاري العادة والقسس يحملون الصلبان والمباخر يترنمون حتى تمت الصلاة وقرءوا فصلا من الكتاب المقدس وكان الراهب قد تعب فجلس على معقده الحجري ليرتاح فلما انقضت الصلاة تقدموا نحوه وأعطوه مقراضًا ودنا حماد منه وشعره يحللهُ فمد الراهب يده وامسك خصلة من شعره وبارك وقصها إشارة إلى وفاء النذر وبقي الشعر مسترسلًا على نية أن يقصهُ عند عودتهِ إلى المنزل.
فلما انقضى الاحتفال أشار عبد الله إلى الراهب أنهُ يريد الخلوة فأوعز إلى الحضور فخرجوا وبقي هو وعبد الله وحماد وسلمان وأطفئت الشموع ولم يبق من الأنوار إلاَّ مصابيح الزيت المعلقة أمام الأيقونات فأشار عبد الله إلى سلمان أن أغلق الباب فهمَّ بإغلاقهِ وهو لا يحسب نفسهُ قادرًا على ذلك لضخامتهِ فإذا هو طوع يده لان لأهل حوران صناعة دقيقة في تركيب تلك الأبواب حتى تغلق بسهولهُ.
فلما أغلق الباب وضعف النور أَحسوا بانقطاعهم عن عالم الأحياء وخيل لهم أنهم في عالم آخر وخفق قلب حماد تطلعًا لما سيسمعهُ من غريب الأحاديث. فنزع عبد الله جبتهُ وهمَّ بصره كانت معهُ فحلَّها واستخرج منها رداءَ مزركشًا يشبهِ الطيلسان كان قد أدخره واحتفظ بهِ منذ أعوام فقبلهِ ثم بسطهُ وجعلهُ على كتفيه ونشر على الأرض أمام مجلس الراهب جلدًا جثا عليهِ وجلس حماد وسلمان أمامهُ والجميع سكوت يراعون حركات عبد الله وسكناتهِ وينتظرون ما يبدو منهُ.