مدينة بصرى
وأصبح حمادًا في الفجر فهرول إلى ثيابهِ فلبسها وعبد الله لا يزال نائما فأراد أن يوقظهُ ليستأذنهُ في الذهاب إلى بصرى على سبيل التفرُّج فخاف أن يطلب الذهاب معهُ فعوَّل على الذهاب بنفسهِ خفية.
فركب جواده وقد لبس الكوفية والعقال وجعل عليهِ القباء كالعباءَ وسار شرقًا قاصدًا مدينة بصرى ولم يصطحب أحدًا من الخدم إخفاءً لما سار من أجلهِ وكانت الطريق بين غسام وبصرى على استقامة واحدة كأَنها هدمت بالمسطرة والفادن والبركار مرصفة بالحجارة الصلدة على نظام سائر طرق الرُّومان وقد تأكلت الحجارة من مسير عجلات مركباتهم يحدها من الجانبين حائطان ضخمان ارتفاع كل منهما ذراع. ولم يسر ساعة حتى أطل على بصرى وأوَّل ما شاهده منها حوضها الكبير الغربي الواقع خارج السور وهو عبارة عن خزَّان للمياه كبير طوله ١٢٥٠ قدمًا وعرضهُ ٦٥٠ قدمًا وكان لبصرى أحواض أخرى في الشرق والشمال لخزن الماء خوفًا من الجدب لبعدها عن الأنهر والغدران.
فلما دنا من ذلك الحوض عرج نحوه وتأَمل إتساعهُ حتى كاد يحسبهُ بحيرة كبيرة لأنهُ كان على معظم امتلائهِ في أوائل الربيع ثم تحوَّل عنهُ إلى مرتفع من الأرض ليرى بصرى منهُ وهو لم يدخلها بعد ولكنهُ قرأ عنها في كتب الفرس والكلدان وعرف أنها واقعة في جنوبي حوران شرقي نهر الأردن تبعد ٩٠ كيلومترًا عن دمشق جنوبًا شرقيًا و١٢٠ كيلومترًا من بيت المقدس شمالًا شرقيًا وأنها قديمة العهد عاصرت دول اليهود ثم اليونان والرومان فلما دنا منها صعد إلى مرتفع فأشرف عليها وقد أشرقت الشمس فإذا هي مربعة الشكل تقريبًا مالئة بقعة كبيرة من الأرض المنبسطة وحولها سور يزيد محيطهُ على أربعة أميال وشاهد خارج السور البساتين والأشجار والكروم وسائر أصناف الغرس ورأَى من وراء ذلك سلاسل جبال حوران في عرض الأفق وقد أعجبهُ منظرُ المياه في الأحواض حول المدينة تتلألأ بانكسار الأشعة عنها وشاهد في المدينة بنايات هائلة كان منظرها بوجه الإجمال مغبرًا لأن حجرها من الصنف الحورانى الأسمر المشهور فاشتاقت نفسهُ إلى مشاهدة أسواقها فسار نحو بابها الغربي فرأَى عنده القوافل وفيها الجمال والبغال والحمير بعضها قادم من العراق يحمل الأقمشة الفارسية وبعضها من اليمن يحمل الأطياب والمر واللبان وشاهد قوافل أخرى تحمل البضائع الرُّومانية وسائر مصنوعات الشام وتأمل الباب فإذا هو مرتفع هائل الكبر مصنوع على النمط الروماني وفيهِ العضائد والأعمدة والنقوش على عتبتهِ من الأعلى نقش باللغة اللاتينية لم يستطع قراءتهُ فهمَّ بالدخول من ذلك الباب فرأَى الشارع مرصفًا بالحجارة والناس يتزاحمون ذهابًا وإيابًا ففضل الترجل والمسير ماشيًا فدخل وقاد الجواد وراءهُ في شارع المدينة الأكبر وهو يقطعها من الغرب إلى الشرق ويقطعهُ شارع آخر مثلهُ من الشمال إلى الجنوب وهما أكبر شوارع المدينة ومنهما تتفرع الشوارع الصغيرة والدروب والأزقة والحارات على زوايا قائمة فعجب لانتظام تلك الشوارع وحسن هندامها لأنهُ لم يشاهد على نظامها ولا في المداين عاصمة الفرس في ذلك العهد.
ولم يكد يخطو في ذلك الشارع بضع خطوات حتى ترأى لهُ عن بعد قنطرة قائمة في عرض الطريق فعلم أنها قوس نصر اعتاد الرومانيون بناءَها تذكارًا للنصر أو لاحتفال يحق بهِ الفخر فلما دنا من القنطرة رآها مؤلفة من ثلاث أقواس قوس متوسطة كبيرة وقوسين جانبيتين صغيرتين وعلو القنطرة أربعون قدمًا وعرضها أربعون وسماكتها عشرون وكلها مبنية بأحجار ضخمة قائمة على عضائد مهندمة وفى أعلى القوس كتابة باللاتينية تشوَّق حماد إلى استطلاع معناها فإلتفت إلى أحد أصحاب الحوانيت وقد عرف من شكل أنفهِ أنهُ روماني وكلمهُ باللغة الكلدانية الممزوجة بالعبرانية فأشار إلى رجل جالس بالقرب منهُ كأنهُ يطلب إليه أن يترجم لهُ فجاءَ فسألهُ حماد عن تلك الكتابة فقال: «معناها أن يوليوس يوليانوس قائد الفرقة الأولى البرطية بناها.» فأعجب ببذخ الرومان وأيقن أنهم أقرب إلى العظمة والترف من ملوك فارس وقال في نفسهِ (إذا كانت هذه حالهم وهم في دور الانحطاط فما هو مقدار عظمتهم وبذخهم في أبان مجدهم) فمرَّ من تحت تلك القوس وسار في جهة واحدة فوصل إلى مزدحم من الناس عظيم فإذا هو في متصالب الطرق حيث يلتقي الشارعان الكبيران وهناك الحوانيت الكبيرة وباعة الأقمشة الثمينة ولكنهُ رأَى على أحد أركان ذلك المتصالب بناءً شاهقًا ذا أروقة ونوافذ وأعمدة ونقوش بديعة فسأَل عنهُ فقيل لهُ: «أنهُ هيكل بناه الرومان لعبادة الأوثان قبل تنصر قياصرتهم وأما الآن فقد اتخذوا بعضهُ معبدًا والبعض الآخر يسكنهُ كبار حامية الرُّوم في بصرى.» ووقف في ذلك المكان وإلتفت إلى ما حولهُ فإذا هو في منتصف المدينة ومن هناك تمتد أربعة شوارع كبيرة تنتهي عند السور بأربعة أبواب غربي وشرقي وشمالي وجنوبي ثم تحوَّل إلى الشوارع الأخرى ليتعهدها ثم يخرج من الباب الشرقي ومنهُ يصل إلى الدير فشاهد بين أبنية بصرى قصورًا شاهقة معظمها من الكنائس وبعضها من الهياكل الوثنية بنيت على عهد الرُّوم قبل تنصرهم وفى جملتها مرسح بديع كانوا يلعبون فيهِ ألعاب السباق والمصارعة.
وشاهد على تلك الأبنية كتابة بعضها نقوش وبعضها أصبغة وأكثرها مكتوب باللغة اليونانية واللاتينية وبعضها باللغة النبطية.
وأخذ يتأَمل ما هنالك من الرساتيق والأسواق وفيها التجار وأكثرهم من الغرباء وبينهم الدمشقي والحلبي والبدوي والرومي والفارسي والعراقي ثم وصل سوق الصناع فوجد أكثر الصاغة من الفرس والرُّوم وصناع الأقمشة الحريرية من الدمشقيين ومرَّ بسوق الأسلحة وفيها صناع السيوف الدمشقية الشهيرة وأكثرهم من أهل دمشق ولاحظ أن أبنية بصرى على اختلاف أشكالها مسقوفة بالحجر عقدًا على شكل القبو ورأَى الناس تتزاحم في الأسواق رجالًا ونساءً وفيهم الوطنيون ولغتهم الآرامية أو النبطية وبينهم الرُّوم ولغتهم اللاتينية وبعضهم يتكلم اليونانية وشاهد جماعة كبيرة من العرب الغساسنة لا يزالون على بدواتهم لأنهم يقيمون خارج المدينة ولا يدخلونها إلا لحاجة فعرفهم من لباسهم البدوي وأعجب لما رآه هناك حتى كاد ينسى موعده مع هند ثم انتبه فإذا بالشمس قد كادت تبلغ الضحى فهرول حتى خرج من الباب الشرقي قاصدًا الدير وقد عادت إليه هواجسهُ وشواغلهُ.