مقتل النعمان بن المنذر
فتنهد عبد الله وهو يعتدل في مجلسهِ ويصلح الرداء على كتفيه وقال: «قد وصلنا إلى المراد من حديثي فارعوني السمع لأقص عليكم غرائب ما أعلمهُ عن هذا الملك». قال ذلك وشرق بدموعهِ خلسة ولولا ضعف النور لظهر الدمع متلألئًا في عينيهِ ولكنهُ تجلد وأعاد الحديث فقال.
إن الملك النعمان هذا لا احتاج في وصفهِ إلى تطويل وكلكم يعرفهُ إلاَّ حمادًا ويكفي في وصفهِ أنهُ شهم شجاع صادق وقد أعاد النصرانية إلى الملك بعد أن فسدت وأبدلها أسلافهِ بالوثنية. ولا تتضح لكم دخيلة حديثي إلاَّ إذا ذكرت لكم كيفية تولي النعمان الملك. فقد كان أبوه المنذر ملكًا قبلهُ وكان في بلاط كسرى على عهده رجل عدناني اسمهُ عدي بن زيد كان يحسن العربية والفارسية وكانت لهُ منزلة كبرى ونفوذ لدى كسرى وكان مقام كسرى في المدائن والمنذر في الحيرة كما تعلمون وكان للمنذر ١٢ ولدا احدهم النعمان الذي نحن في صدده وكان قد ربي في حجر عدي بن زيد ورضع في أهلهُ وكان من أبناء المنذر أيضًا فتى اسمهُ الأسود رباهُ قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا ينتسبون إلى لخم.
فلما مات المنذر خاطب كسرى عديًا في من يلى الحيرة بعده وقال لهُ: «إني أرى أن اخرج الملك من أيدى هؤلاء واجعلهُ في يدي واحد من خاصتي فهل بين أولاد المنذر من يصلح للملك» قال عدي: «أنهم بضعة عشر رجلًا كلهم أشداء فإذا أمر مولاي جئته بهم». قال: «إلي بهم». فبعث يستقدمهم وفي نفسهِ أن يسهل سبيل الملك إلى النعمان سرًا لأنهُ ربي عنده فخلا بهِ قبل اجتماعهم واسر إليه أشياء يقولها في حضرة كسرى ففعل وتولى الملك فشق ذلك على ابن مرينا لأنهُ كان يرجو أن يكون الملك للأسود التماسًا للنفوذ على يده. فاخذ يحرض الأسود على الانتقام من عدي بدعوى أنهُ عدناني (أي من نسل عدنان وبين القحطانية والعدنانية مناظرة) فوافقه وسلم التصرف في ذلك إليه فجعل ابن مرينا يتقرب من النعمان بالهدايا والتحف ويشي بعدي فيذكره بالخبر ويتواطأ وبعض الحضور على الطعن فيه فيروون عن لسانهِ أنهُ يقول بان النعمان تحت أمره وأنهُ هو الذي ولاه الملك وما زالوا كذلك حتى أضغنوه عليهِ. فبعث النعمان إلى عدي يدعوهُ إلى زيارتهِ فجاء وفي حال وصولهُ أمر بسجنهِ في مكان خارج الحيرة لا يدخل عليهِ فيهِ أحد فعلم عدي أنها وشاية فجعل يكتب إلى النعمان يستعطفهُ نظمًا ونثرًا فلم يجد ذلك نفعًا فكتب إلى أخ لهُ اسمهُ أبي يحرضهُ على إنقاذه فقام أبي إلى كسرى وأنبأه بخبره فكتب إلى النعمان في إطلاقهِ فجاء أعداءُ عدي وأكثرهم من بني بقيلة وأصلهم من عرب غسَّان أهل هذه الديار وحرضوا النعمان رحمهُ الله على الفتك بعدي قبل وصول كتاب كسرى إليه وحسَّنوا لهُ ذلك بحيلة يطول شرحها وكان الرسول قد مرَّ قبل وصولهِ إلى الحيرة بسجن عدي وأخبره بكتاب كسرى ثم خرج من عنده إلى النعمان وفي أثناء ذلك أرسل النعمان إلى عدي أناسًا قتلوه فلما فضَّ كتاب كسرى كتب إليه أن عديّا مات. ولكن النعمان ما لبث أن عرف أنهُ أساءَ عديًا فندم وما صدق إن لقيَّ ولدًا من أولاده اسمهُ زيد بن عديّ حتى هم بإكرامهِ ورفع شأنهُ تكفيرًا عما فرط منهُ بشأن والده وأوصى بهِ كسرى فجعلهُ في منزلة والدهُ عدي.
فلم يغفل أهل الوشاية عن اطلاع زيد على كيفية قتل أبيهِ فحقدها على النعمان وسعى ضده لدى كسرى بحيلة غريبة. وذلك إن الأكاسرة كانوا يبعثون إلى أيالاتهم يطلبون نساءَ لهم على أوصاف مخصوصة ولكنهم لم يكونوا يلتمسون ذلك من أحياء العرب لعلمهم ببخلهم بكرائمهم. فقال زيد لكسرى مرة: «إن في الحيرة نساءَ جمعن كل أوصاف الجمال فإذا بعثت إلى النعمان أرسل إليك منهن» وكان زيد يعلم أن النعمان لن يرضى بذلك فيقع التنافر بينهُ وبين كسرى فأنفذ كسرى رسولًا ومعهُ زيد إلى النعمان فاخبره بطلب كسرى فعظم ذلك عليهِ فالتفت إلى زيد وقال لهُ: «أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ كسرى بهِ حاجتهُ إن الذي طلب كسرى ليس عندي». قال الرسول لزيد بالفارسية: «ما معنى المها والعين؟» قال: «البقر».
فلما رجعا إلى كسرى أخبراه بما قال النعمان وأقنعاه أنهُ إنما أراد الحط من منزلة كسرى بقولهُ (أليس في بقر الفرس ما يكفيهِ). فغضب كسرى غضبًا شديدًا ولكنهُ كتم ذلك والنعمان قد شعر بغضبهِ فاخذ يستعد ويتوقع حتى أتاه كتاب كسرى يستقدمهُ إليه فعلم أنهُ إنما يدعوه لمقتلهُ فحمل سلاحهُ وأهله والتمس الفرار. وكنت أنا ممن لازم النعمان زمانا وكان يستأنس بي ويرتاح إلى رفقتي فقال لي: «كيف أنت يا عبد الله قلت إني يا مولاي لاحقك بك أينما توجهت» فقال: «إن في ذلك خطرًا عليك» قلت: «ما أنا احرص على نفسي مني على نفس مولاي النعمان» فقال: «بورك فيك». فصحبتهُ من ذلك اليوم وسرنا حتى أتينا قبيلة طي في أعالي نجد وكان النعمان قد تزوج منهم فطلب أن يحموه بين الجبلين (أجا وسلمى) فقالوا: «لا يمكننا ذلك ولولا صهرك لقتلناك فأنهُ لا حاجة بنا إلى معاداة كسرى».
فتركناهم وسرنا إلى قبائل أخرى فلم يقبلنا أحد منهم خوفًا من كسرى حتى لقينا رجلًا من قبيلة بكر بن وائل اسمهُ هاني بن مسعود وكان سيدًا منيعًا وكان للنعمان فضل عليهِ فقال لهُ: «إني مانعك مما أمنع نفسي وأهلي وولدي منهُ ما بقى من عشيرتي الأدنين رجل ولكنني لا أرى ذلك نافعًا لك لأنهُ مهلكي ومهلكك فإذا أذنت لي فاني مشير عليك بالذهاب إلى كسرى مستعطفًا واحمل إليه الهدايا فإذا صفح عنك عدت ملكًا وإلاَّ فالموت خير لك من أن يتلاعب بك صعاليك العرب» فاستحسن مولاي النعمان الرأي ولكنهُ قال: «ما أفعل بحرمي؟» قال هاني: «هنَّ في ذمتي لا يخلص إليهنّ حتى يخلص إلى بناتي». فقبل النعمان بذلك وأنا خائف من عاقبة الأمر وقد حدثتني نفسي في صده عن الذهاب فلم أجسر لأني شاهدت وجههُ وكان أبرش أحمر كما تعلمون قد امتقع حتى صار كمن أصابهُ اليرقان ونهض وقد همهُ الأمر كثيرًا وجعل يخطر ذهابًا وإيابًا وقصر قامتهِ ظاهر وهو يفتل شاربيه الأشقرين كأنهُ خائف من الذهاب وكان ضميره دليلهُ.
ثم فكر قليلًا وقال لهاني: «أرى يا أخا بكر أن أرسل إلى كسرى هدايا فان قبلها سرت إليه» فقال هاني: «نعم الرأي رأيت» فأرسلها إليه فقبلها كسرى خداعًا منهُ قبحهُ الله. فهمَّ مولاي النعمان بالمسير فقلت: «إني سائر معك ووالله لا أبرحك لحظة» فقال: «أرى أن تبقى عند نسائي خير من أن تذهب معي قلت إني فاعل ما تريده ولكنني أرى النساء آمنات في حمى هاني بن مسعود فأذن بذهابي معك» فأذن وكأَن نفسي حدثتني بخطر قريب فسرنا حتى أتينا المدائن فلقينا زيد بن عدي فتشاءَمت برؤيتهِ وتحققتُ سوء قصده وكنت مصيبًا في ذلك لأنهُ لم يكد يلقانا حتى قال للنعمان: «انج نعيم إن استطعت النجاة» فقال النعمان: «فعلتها يا زيد فوالله إن عشت لأقتلنك قتلة لم يقتلها عربي قط ولألحقنك بأبيك». فضحك زيد لعنهُ الله وتوعده فعلمنا أنها حيلة أعدها لهُ وتحقق النعمان أن الساعة قد دنت وإن القضاءَ واقع لا مفرّ منهُ. فلما وصل إلى كسرى أمر فقيدوه وبعثوا بهِ إلى سجن في خانقين وكنت أتردد إليه في السجن خلسة وأنا أرجو الإفراج عنهُ أما هو فلم يكن يرجو نجاة.