السرّ
وسرتُ إليه ذات يوم صباحًا فرأيتهُ قد تغير حالهُ وامتقع لونهِ كأنهُ خائف من أمر قريب ولا أنسى منظره الرهيب في ذلك اليوم فوقفت أنتظر أمره فقال لي: «يا عبد الله».
قلت: «لبيك يا مولاي».
قال: «أرى أن أسرَّ إليك أمرًا فهل تعاهدني على حفظهِ؟»
قلت: «كيف لا؟»
فمدَّ يده وأعطاني هذا الرداء المزركش (قال عبد الله ذلك ونزع الرداء عن كتفيهِ ووضعهُ أمامهُ) فأخذتهُ منهُ ثم استخرج من يده خاتمًا عليهِ اسمهِ ولقبهِ وهو هذا (ومدّ عبد الله يده واستخرج الخاتم من جيبهِ ووضعهُ على الرداء)» وكان الحضور شاخصين يحبسون أنفاسهم إصغاء لما سيقولهُ عبد الله وتوقعَا للخطر القريب. وكان عبد الله قد تغيرت سحنتهُ واختنق صوتهُ وتخللهُ ارتعاش زاد الحضور تهيبًا.
ثم قال: «فلما تناولت الخاتم قال لي النعمان: «اعلم يا عبد الله إني في هذا السجن حتى ينقضي أجلي فيخرج مُلك الحيرة من أيدي اللخميين لأن عديًّا هذا سيبذل جهده في إذلالهم خوفًا ممن ينتقم لي ولا أعرف من أولادي من يصلح لرفع هذا العار عنا ولكن بين أهلي عند هاني بن مسعود زوجتى سمَّية وهي حامل وستلد قريبًا فاذهب إليها بهذا الخاتم وهذا الرداء وقل لها إن هي وضعت غلامًا أن تعهد إليك بتربيتهِ فتربيهِ تربية رجال القتال حتى يشب شهمًا حرًا واحذر أن تقص شعره أو تخبره عن نسبهِ قبل الحادية والعشرين من عمره فإذا بلغها قص شعره في دير بحيراء واخبره عن نسبهِ والبسهُ هذا الرداء وهذا الخاتم …».
ولم يكد يتم عبد الله كلامهُ حتى استولت البغتة على الحضور وخصوصًا حماد إذ خيل لهُ أنهُ في حلم وساعده على ذلك الوهم ضعف النور وهدوء المكان وكانوا لا يرددون أنفاسهم إلاَّ وهم يحذرون أن تعترض حديث عبد الله فلما وصل إلى هذا الحد تحققوا أن حمادًا هو ابن الملك النعمان فجعلوا ينظرون إليه نظرة الاحترام. أما عبد الله فحالما بلغ إلى قولهِ «وألبسهُ هذا الرداءَ والخاتم» وقف على قدميهِ وجعل الرداء على كتفي حماد والخاتم في إصبعه وامسكهُ بيده وأنهضهُ وأجلسهُ على المقعد الحجرى وهم بتقبيل يده فخجل حماد وجذب يده منهُ فقال لهُ عبد الله لا تخجل يا مولاي انك الآن سيدي ابن الملك النعمان وقد انقضى زمن والدية عبد الله. فجلس حماد على المقعد وجلس عبد الله بين يديهِ وهمَّ سلمان بيد حماد فقبلها وتأدب في مجلسهِ وهو يقول: «والله كنت أرى هيبة الملوك على وجههِ من يوم عرفتهُ».
أما الراهب فأنهُ على عجزه وقف ورفع يدهُ فوق رأس حماد وباركهُ ودعا لهُ بطول البقاء وقبل رأسهِ. كل ذلك وحماد يحسب نفسهُ في حلم ولكنهُ فرح كثيرًا بما علمهُ من نسبهِ وودَّ لو أن هندًا حاضرة فتسمع ذلك فتفرح معهُ وخيل لهُ أن سعدهُ قد تم لأنهُ ملك وسيقترن بملكة ويرث ملك غسان. وفيما هو يفكر في ذلك نهض عبد الله فقال: «لم يتمَّ حديثي بعد فهل تسمعونهُ إلى آخره؟»
قالوا: «نعم».
فمدّ يدهُ إلى جيبهِ واستخرج اسطوانة من الفضة تخن الإصبع وخاطب حمادًا قائلًا وقد أعطاني مولاي النعمان هذه الاسطوانة واستحلفني أن أسلمها إليك مختومة بعد إتمام الخبر فتفتحها في هذا الدير وتقرأ ما فيها وتعمل بهِ.
فمد حماد يده فتناول الاسطوانة وهمَّ بفتحها فامسكهُ عبد الله وقال: «لا تفعل قبل إتمام الحديث».
قال: «تفضل».
فقال عبد الله: «فلما أتمّ النعمان وصيتهُ بكى وبكيت ولكنني كنت أَحبس الدمع تشجيعًا لهُ. فقال: «اعلم يا عبد الله أن القضاءَ واقع قريبًا فاحتفظ بهذا السر حتى يأت وقتهِ أما إذا أنا خرجت من هذا السجن وعشت وللمسالة وجه آخر». وللأسف يا سيدي أنهُ لم يخرج من ذلك السجن فوافاهُ القدر فتوفي بداء الطاعون» قال ذلك وتنهد والدموع ملئُ عينيهِ فتنهد الجميع ثم قال.
أما أنا فسرت إلى هاني ولقيت والدتك سمية وكانت حاملًا فأسررت إليها ما كان فأطاعت فانتظرتُ ريثما وضعت ولكنها واأسفاه عليها لم تعش بعد الولادة إلاَّ قليلًا فحملتُك إلى أهلي وأرضعتك منهم حتى شببت على ما ترى.