وقعة ذي فار
ولعلك تسألني عما تم من أمر وديعة والدك فأخبرك يا مولاي أن كسرى علم بعد وفاة سيدي النعمان أن أهلهُ ومالهُ وسلاحهُ عند هاني وفيهِ أربعة آلاف شكة والشكة سلاح الفارس كلهُ فكتب كسرى إلى هاني بأن يبعث الوديعة إليه فأبى ذلك محافظة على العهد ورعاية للذمام وكان لكسرى عامل على عين التمر وما والاها إلى الحيرة اسمهُ إياس بن قبيصة الطائي فدعا بهِ إليه فجاءهُ برجالهُ فاستشارهُ في الغارة على بكر بن وائل فأشار عليهِ أن يفعل فعقد كسرى لإياس بن قبيصة على كتيبتيَ والدك وهما الشهباء والدوسر وأرسل معهُ جندًا آخر بقيادة رجال من الفرس فكانت حملة تزعزع الجبال وفيها من الخيل والجمال والمؤنة والعدة ما لا يحصى فلما سمع هاني بن مسعود بها سار برجالهُ لملاقاتها فالتقوا في محل يقال ذو قار وكانت فيهِ وقعة عرفت بوقعة ذي قار بين الفرس والعرب اشتهر أمرها في الأقطار وكانت الغلبة فيها لهاني ورجالهُ فأنهم هزموا الفرس شر هزيمة وهي أعظم وقعة انتصف فيها العرب من العجم قبل الإسلام وفرَّ إياس إلى كسرى فسأله عن الخبر فقال: «غلبت بكر بن وائل وجئنا إليك بنسائهم» ففرح كسرى بهِ وأمر لهُ بكسوة ولكن إياسًا خاف افتضاح أمره قريبًا فاستأذن بالذهاب إلى أهلهُ فأذن لهُ فانصرف إلى عين التمر ثم جاء رجل من أهل الحيرة إلى كسرى وحدثهُ بهزيمة القوم فغضب منهُ كسرى فأمر فنزعت كتفاه ولم يصدق إلاَّ اياسًا فولى اياسًا الحيرة كما تعلمون وقد ولى بعده رجل فارسي آخر ثم وليها احد إخوتك المنذر الغرور وهي الآن في ولاية إياس بن قبيصة ولا تزال الوديعة عند هاني بعضها أو كلها.
من النعمان نزيل دار البقاء إلى ابنهُ المنذر المقيم بين الأحياء. أما بعد فهذا كتاب كتبتهُ وأنا في عالم الوجود وأنت في دار الخفاء وستقرأه بعد رجوعي إلى عالم الغيب وبروزك في عالم الأحياءِ. فإذا قرأتهُ وقد وفيت نذرك وعرفت حقيقة نسبك فاعلم أن عظامي تناديك من ظلمة القبر وتستحلفك بشرف أجدادك المناذرة من آل لخم أن لا تقرب امرأة ولا تشرب خمرًا حتى تنتقم لأبيك من أكاسرة الفرس فإذا فعلت ذلك فانك مبارك أنت ونسلك. وإن لم تفعل فان رفاتي ترتعش حنقًا ونفسي تتأَلم وهي تنظر إليك من منافذ الآخرة تراقب حركاتك وسيجمعني وإياك موقف نتحاسب فيهِ والسلام.
فلم يكاد حماد يأتي على خاتمة الكتاب حتى ارتعدت فرائصهُ وأي ارتعاد وقد رأى مساعيه كلها ذاهبة أدراج الرياح على أن الحمية من الجهة الثانية. ثارت فيهِ والنخوة هاجت في رأسهِ وشعره بدافع يدفعه إلى الأخذ بثأر والده من أكاسرة الفرس وقد استعظم المشروع وهالة الأقدام عليهِ فوقف مبهوتًا لا ينبس ببنت شفة.
فنظر عبد الله إليه ينتظر ما يبدو منهُ فلما رآه صامتًا قال لهُ: «هذا هو السر يا سيدى قد أطلعك عليهِ فألقيت عن عاتقي حملًا حملتهُ نيفًا وعشرين عامًا وأنا أخاف أن أقضي نحبي قبل إفشائهُ فانظر في ماذا تفعل».
فقال حماد: «لقد ألقيت عنك حملًا اثقلتني بهِ وأرجو أن أتوفق للقيام بما عهد إليَّ والله منجدي ونصيري». قال ذلك وتحفز للخروج من الصومعة فأوقفهُ عبد الله والتمس من الراهب أن يختتم حديثهم بالصلاة فصلى وتضرع إلى الله أن يساعدهم على كتمان الأمر ثم خرجوا وكأن على رؤوسهم الطير لهول ما سمعوهُ ورأوه. وأكثرهم بغتة وإنذهالًا حماد لأنهُ أصبح لا يدري ماذا يعمل أيسير إلى هند يطلعها على سره وليس في ذلك السرّ إلاَّ ما يوجب كدرها لأنهُ حائل بينها وبين الاقتران إلى أجل غير معين وإن يكن في اطلاعها على حقيقة نسب حماد أمر يسرُّها. أم يخاطب جبلة بالأمر لعلهُ يشير عليهِ أو ينجدهُ. أم يأُم العراق فينزل المدائن ساعيا في الانتقام من كسرى فلما فكر في مسيره إلى هناك تهيب لعلمهِ بما يحول بينهُ وبين ذلك المرمى من العقبات فإن الأكاسرة ذوو بطش ومنعة. فسار إلى الدير وقضى ليلهُ ساهرًا لعظم تأثره وهو يفكر في طريقة تهون عليهِ المشاكل.