المدائن
هي عاصمة أكاسرة الفرس ويسميها اليونان كتيسيفون ويسميها الطبري طيسبون والغالب أن كتيسيفون قسم من المدائن وكانت على مسافة عشرين ميلًا من بغدًاد جنوبًا على الضفة الشرقية لدجلة يقابلها في الغرب بلدة اسمها كوش يعتبرها بعضهم من ضواحي كتيسيفون بينهما جسر عظيم مبني من السفن وكان بجوار ذلك المكان أيضًا آثار مدينة يونانية اسمها سلوقية نسبة إلى سلوقون خليفة الإسكندر هناك وقد سميت هذه الأماكن بجملتها المدائن (جمع مدينة). وأصل بناء المدائن أنهُ كان في مكانها حصن كبير يسمَّى حصن كتيسيفون كان البرطيون (الفرثيون) أبان سلطانهم على العراق يقيمون فيهِ أثناء الشتاء لصفاء الجو هناك وكان بجوار الحصن مدينة سلوقية الشهيرة ثم أخذوا يبنون حول الحصن المنازل والحدائق فلم يأت تاريخ الميلاد المسيحي حتى بنيت هناك مدينة سميت باسم الحصن كما جرت العادة في مثل هذه الحال وظلت المدائن مقام الأكاسرة في زمن الشتاء. وكانت محاطة بسور منيع عليهِ الأبراج والقلاع يزيد مناعتهُ مياه دجلة من جهة والآجام والمستنقعات من الجهات الأخرى فأصبحت المدائن جزيرة في وسط المياه يستحيل وصول الأعداء إليها قبل أن تمزقهم نبال الفرس من الأسوار وقد كان بين دجلة والفرات جنوبي المدائن قناة موصلة بينهما اسمها نهر ملكا ومعناها بالكلدانية نهر الملك تسهل نقل السفن بين النهرين.
وكان على ساحل المدائن عند دجلة سلم ممتد بطول الضفة يصعد عليهِ الناس من النهر إلى المدينة بدرجات متينة مبنية من الحجر ويسمى هذا السلم باصطلاح أهل تلك البلاد «مسنَّاة».
وترسو عند المسناة سفن الفرس مئات وألوفًا حتى تخال سواريها غابة من الأعمدة تناطح السحاب والناس فيها جماعات يتزاحمون بين صاعد ونازل وشكل السفن يشبهُ شكلها في العراق الآن فأنها مبتورة المؤخر كأنها قطعت بسكين قطعًا عاموديًا فصارت عريضة ملساء وأما مقدمها فأنهُ يصعد مستدقًا رويدًا رويدًا حتى إذا انتهى إلى أعلاه انحنى على نفسهُ نحو السفينة على شكل المنجل فتخال تلك السفن إذا تحاذت متلاصقة عند المسناة وقد أديرت مقاديمها نحو المدينة أنها سيوف عقفاء يحملها جند من الحرس يحمون المدائن.
ولو اطللت على المدائن من مرتفع في ذلك العهد لخيل لك أنها غوطة فيها البساتين والمغارس بينها القصور والمنازل مبنية من الآجر وقد قام في وسطها الإيوان كأنهُ ملك عظيم الشأن تحف بهِ الخدم والأعوان.