انس أَم جان
فلندع كسرى وإيوانهُ ولنعد إلى حماد وهواجسهِ فقد تركناه في دير بحيراءَ غارقًا في لجج الأفكار تتقاذفهُ العوامل بين المسير إلى العراق أو البقاءِ في البلقاء وكلا الأمرين شاق وكلما تصور مسيره إلى مدائن كسرى هالهُ موقفهُ موقف الخصم أمام ملك الفرس وعظم عليهِ الانتقام منهُ وهو فرد وذاك سلطان ينصره الجند والأعوان ولم يكن ذلك ليهولهُ أو يكبر عليهِ لولا أمر هند وتأجيل الاقتران ولقد كان ميالا كل الميل لاطلاع هند على ما كشف لهُ من نسبهِ مع ما جدَّ من أمر التأجيل ليرى ما يبدو منها ومن والدها ولكنهُ تربص ريثما يتخذ إلى ذلك سبيلًا لائقًا. فلما تلبدت عليهِ المشاغل وضاق صدره خرج من غرفتهِ ولم يعلم عبد الله ولا سلمان بخروجهِ وسار يلتمس منفردًا يخلو فيهِ بنفسهُ لعلهُ يتوفق إلى رأي يخفف قلقهُ. وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل فلاحت لهُ أكمة على بضعة أميال منهُ فركب وسار نحوها وفيما هو في الطريق غاب وجدانهُ بما اجتذب انتباهه من الشواغل فسار الجواد حثيثًا وحماد لا يعلم فلم ينتبه إلاَّ وهو في سفح جبل فالتفت إلى الوراء فإذا ببصرى والدير قد غابا عن بصره ونظر إلى الشمس فرآها مائلة نحو المغيب فوقف يفكر في ماذا يفعل أيعود إلى بصرى حالًا أم يجلس هناك هنيهة فنظر إلى ما حولهُ فإذا هو في واد بين جبلين أجردين كسائر جبال حوران فترجل وقاد جواده صعدا يلتمس قمة أحد الجبلين لعلهُ يشرف منها على بصرى فيعرف جهتها منهُ ومتى عاد إليها أمن الضياع وفيما هو صاعد حانت منهُ التفاتهِ إلى الجبل المقابل فرأى كهفا نحتتهُ يد الطبيعة في سفح ذلك الجبل ولاح لهُ شبح يتلصص بين الصخور هيئته بين الآدمية والوحشية لطول شعره وعريه فوقف حماد ينظر إلى ما يبدو منهُ فما لبث أن رآه يهرول نحو الكهف حتى دخلهُ وتوارى.
فمال حماد إلى استطلاع حقيقة ذلك الشبح وتحوَّل نحو الكهف يقود الفرس وهو لا يسمع في ذلك المكان صوتًا غير صوت وقع أقدامهِ وقرقعة حوافر جواده تدوي في أنحاء ذلك الوادي ويتخلل الدوي طقطقة حجارة تتدحرج من مواقع حوافر الفرس ممتزجة بصوت صهيلهُ. فنزل الوادي ثم هم بالصعود حتى إذا صار على مقربة من الكهف رأى صخرًا يتدحرج نازلًا نحوه فتحوَّل من طريقهِ وعلم أنهُ إنما دحرج من الكهف عليهِ فلم يبال ولكنهُ ازداد ميلًا إلى معرفة ذلك الشبح فما زال صاعدًا حتى دنا من الكهف فإذا بصخر آخر يتدحرج فنادى بأعلى صوتهِ: «لا ترمنا الحجارة فلسنا براجعين من هذا المكان قبل الوصول إليه». فردد الوادي صدى كلامهُ أضعافًا فتهيب من موقفهِ وزاده تهيبًا قرب غروب الشمس واختلاط الأظلال حتى كادت تتحوَّل إلى ظلام فشعر إذ ذاك أنهُ أساء عملًا بمجيئهِ إلى ذلك المكان الموعر ما آنسهُ من الوحشة والمقاومة ولكنهُ تجلد وتعهد سلاحهُ فإذا هو مقلد الحسام والخنجر ثم ما لبث أن وصل إلى باب الكهف فظهرت لهُ مغارة لا يرى آخرها لعمقها ولا يستطيع الدخول إليها والفرس معهُ فوقف وحدق ببصره إلى الداخل لعلهُ يرى أحدًا فلم يقع نظره على شيء حي فصاح قائلًا: «من يقيم في هذا الكهف فليخرج إلينا لأننا غير متحولين عنهُ قبل أن نراه ولا خوف عليهِ». قال ذلك وهو يكاد يرتعش رهبة لسكون الطبيعة سكونا لا يتخللهُ تغريد طائر ولا نقنقة ضفدع ولا خرير ماء ولا هبوب هواء ولا صوت آخر حي أو جامد غير صهيل الفرس ووقع حوافره. فهمَّ حماد بشد الجواد إلى صخر والدخول إلى المغارة بنفسهِ وفيما هو يهم بذلك ظهر لهُ شبح خارج من ظلمة ذلك الكهف لا يسمع لإقدامهِ وقع فثبت حماد قدمهُ وتحفز للدفاع إذا اقتضت الحال. فلم يكد يفعل حتى وصل ذلك الشبح إليه فإذا هو رجل عار يكسوه شعر رأسهِ المسترسل إلى قدميهِ وقد تمكن بهِ الشيب فابيض على أن الكبر لم يغير شيئًا من اعتدال قامتهِ ورشاقة حركتهِ وحدة بصره وان يكن جلد وجههُ قد تجعد وشعر حاجبيهِ وشاربيهِ قد طال وشعر صدره أصبح لغضهُ وبياضهِ كأنهُ زبد الصابون. وطالت أظافر يديهِ ورجليهِ حتى التفت على نفسها.
فلم يكد يقع نظر حماد عليهِ حتى هاب منظره ولو لم ير في يده صليبًا كبيرًا لخيل لهُ أنهُ من مردة الجان ولكنهُ أدرك لأوَّل وهلة أن الرجل ناسك من نساك تلك الأيام انقطع عن العالم وأوى إلى الكهوف التماسًا للعبادة وكان قد سمع بكرامة هؤلاء وصدق نظرهم في عواقب الأمور فلاح لهُ أن يخاطبهُ في ما هو فيهِ ويستشيره في أمره لعلهُ يخفف شيئًا من قلقهِ فتقدم نحوه باحترام وهم بتقبيل الصليب في يده فأدناه من فمهِ فقبلهُ ثم خاطب الناسك قائلًا: «ألعلك ناسك مقيم في هذا المكان» فأجابهُ الناسك يحني الرأس أن نعم فقال: «هل تأذن لي بمحادثة أبثك فيها بعض ما في ضميري على سبيل الاعتراف فتشير عليَّ بما يوحي بهِ إليك الروح القدس».
فأجاب الناسك بالإشارة أنهُ لا يستطيع التكلم الآن لأن من شروط نسكهُ أن يصمت أسبوعًا وينطق أسبوعًا وان آخر أسبوع الصمت ينتهي الليلة فإذا جاء في الغد خاطبهُ. وكان التنسك شائعًا في تلك الأيام والنساك أنواع منهم من ينذر الصمت طول الحياة أو بضعها ومنهم من ينذر العري أو الجوع أو السهر أيامًا ومنهم من ينذر المعيشة على عشب الأرض وهؤلاء فئة كبيرة كانت بين النهرين سموا «النساك الرعاة» فيقيمون في المغر والكهوف المظلمة.
وكان ناسك حوران هذا ممن نذر الصمت أسبوعًا فسر حماد بتأجيل المقابلة خوفًا من البقاء هناك تلك الليلة ثم لا يعرف طريقهُ في عودتهِ لشدة الظلام. فقال لهُ: «إلاَّ آتي إليك معي بطعام أو نحوه من بصرى» فأجاب (لا) لأنهُ من النساك الرعاة الذين يعيشون على عشب الأرض.
فقال لهُ: «ولكني أرى الأرض هنا مجدبة لا عشب فيها».
فأشار الناسك بيده إلى مكان وراء ذلك الجبل فيهِ مرعى.
فسألهُ عن سبب رميهِ بالحجارة وهو صاعد. فأجابهُ لعلمه أنهُ لا يستطيع مخاطبتهِ قبل انقضاء أسبوع الصمت.
فقال حماد: «وأين الطريق إلى دير بحيراء» فدلهُ على طريق سهل غير الذي جاء منهُ فودعهُ وقبل الصليب وعاد وجواده وراءه حتى وصل إلى الطريق فركب وسار قاصدًا الدير فرأى عبد الله وسلمان ينتظرانهُ في الغرفة وقد قلقوا لغيابهِ على غير موعد فقال لهُ عبد الله: «لقد شغلت بالنا بغيابك على غير انتظار».
فلم يشأ حماد اطلاعهم على ما اتفق لهُ في ذلك اليوم رغبة منهُ في كتمانهُ ريثما يسمع كلام الناسك فيطلعهم على الحكاية كلها.
فقال لهم: «خرجت على فرسي فسرت ببقاع لم أكن أعرفها فأخطأت الطريق في رجوعي فطال بي المسير».
فقال عبد الله: «وما الذي حملك على الركوب منفردًا». فكبر عليهِ الإقرار بقلقهِ وتهيبه من الأمر فقال: «خرجت لترويح النفس».
فأدرك عبد الله حالهُ تماما ولم يشأ أن يشط عزيمتهِ ولا أن يزيد قلقهِ خوفًا عليهِ من اليأس فقال لهُ: «أرى سيدي في اهتمام وقلق وما في الأمر ما يدعو إلى ذلك ولا نحن في سرعة أو ضجر».
فظل حماد صامتًا مفكرًا فأدرك سلمان أن في نفس حماد كلامًا ربما لا يريد التصريح بهِ على مسمع منهُ فتظاهر بأمر يهمهُ خارجًا وترك الغرفة فلما خلا عبد الله وحماد قال عبد الله: «ما بال سيدي لا يبيح بسره ألست شريكك في أمرك».
قال: «بلى بل أنت بمنزلة والدي ولا أخفي عنك شيئًا فاني في قلق وارتباك واراني في حاجة إلى من يفرج كربتي برأي أو مشورة ومسألتنا في ما تعلم من الدقة والخطر».
فقال عبد الله: «هلمَّ بنا إلى الراهب الشيخ الذي شاركناه في سرنا لعلهُ يشير علينا بما يفرج كربتنا».
قال: «هلمَّ بنا إليه».
وخرجا حتى أتيا غرفتهُ فدخلا عليهِ وكان متكئًا فجلس ورحب بهِما فجلسا ثم قال عبد الله: انك يا مولاي شريكنا في سرنا وعالم بما في ضميرنا فهل تشير علينا بما يخفف عنا.
فقال الراهب: «إن المسأَلة في غاية الدقة والمشقة وقد أدركت عظمها منذ سمعتها ولا أدري بماذا أشير». قال ذلك وسكت برهة يفكر ثم هب من مجلسهِ بغتة وقال أرى أن تذهبا إلى ناسك حوران فأنهُ يقيم في كهف على مقربة من هذا المكان فعساه أن يشير عليكما مشورة خير.
فبغت حماد عند سماعهِ اسم الناسك وقال: «هل تظنهُ قادرًا على ذلك».
قال: «نعم يا سيدي أنهُ ممن أوتي علمًا وكرامة فلا تخلو مشورتهِ من فائدة».
فقال عبد الله لحماد: «وهل عرفتهُ قبل الآن».
فقال: «أعترف لك إني وصلت إليه اليوم بطريق الاتفاق وخاطبتهُ فأجابني بإشارة يديهِ أنهُ لا يستطيع التكلم إلاَّ في صباح الغد لأنهُ ممن نذروا السكوت أسبوعًا والكلام أسبوعًا».
فقال عبد الله: «فلنذهب إليه غدًا إن شاء الله فهل ترافقنا يا حضرة الأب المحترم إلى مغارتهِ».
قال الراهب: «يا حبذا لو استطعت المسير إليه معكما ولكنني شيخ لا أقوى على المشي ولا الركوب والطريق وعر فسيرا إليه بحراسة الله ودعوني أقيم هنا أصلي وأتضرع إليه تعالى أن يسهل سبيلكما».
فودعاه وخرجا.