ناسك حوران
وأصبح حماد وعبد الله في الغد فقال حماد: «إلاَّ نصطحب سلمان في مسيرنا إلى الناسك».
قال عبد الله: «لا أرى ما يمنع ذلك وسلمان كما تعلم أكثر غيرة علينا من غيرة أحدنا على الآخر ولا أخالنا نستغني عنهُ في ما نحن فيهِ ولا يليق بنا وقد صحبناه أعوامًا خدمنا بها خدمات جمة أن نخفي عنه أمرًا نجريهِ».
قال حماد: «ذلك ما أراه». وبعثا إليه فصحبهما وخرجوا في الصباح على أفراسهم وحماد دليلهم حتى اقتربوا من الجبل وأطلوا على الكهف فقال حماد: «هذا هو الكهف وكأني أرى الناسك في انتظارنا عند بابهُ».
فنظر عبد الله حتى إذا وقع نظره على الناسك تهيب من منظره عن بعد وصعدوا فلما دنوا من الكهف تحفز الناسك لملاقاتهم وكانوا قد ترجلوا ومشوا نحوه فقال: «أهلًا بكم ومرحبًا» وأخذ يتفرس فيهم واحدًا واحدًا بعينين براقتين تحت حاجبين بارزين بروز الطيف حتى يخال لك أن العينين في حفرتين عميقتين.
فقال حماد: «مرحبًا بك أيها المتعبد التقي لقد جئناك عملًا بوعدك وهذا والدي (وأشار إلى عبد الله) وهذا صديقي (وأشار إلى سلمان)».
وتقدموا جميعًا وعبد الله ينظر إلى وجه الناسك كأنهُ يعرف وجها مثلهُ.
وكان الناسك مشتغلًا في إعداد أحجار يجلسون عليها وهو يخطر أمامهم عاريًا وشعره مسترسل عليهِ يجلل بعضهُ فغلب عليهم الحياء فلم يستطيعوا النظر إليه إلاَّ خلسة.
فلما أعد الحجارة تقدموا إليه وقبلوا يده فباركهم وجلسوا. أما هو فجثا على التراب جثو المستريح وجمع شعر رأسهِ ولحيتهِ في صدره إلى حجره وأخذ يرحب بهم ويعتذر لعدم إمكانه القيام بحق ضيافتهم.
فقال عبد الله: «لقد جئناك نلتمس بركة لا ترحابًا فقد بلغنا أنك من رجال الله المختارين فنظرة منك تغنينا عن أثاث القصور». قال ذلك وهو ينعم النظر فيهِ لعلهُ يذكر الوجه الذي يشبهه.
فقال الناسك: «إني أحقر عباد الله فاشكر لحسن ظنكم بي وما تكبدتموه من المشقة في زيارتي فابسطوا ما في أنفسكم لعلي استطيع بمشيئة الله أن أخدمكم خدمة لمجده تعالى».
فقال عبد الله: «إننا من طائفة النصرانية الذين يعتقدون بكرامة النساك عباد الله ونعتقد أنهم ينطقون بوحي منهُ تعالى وقد جئنا لنطلعك على سرّ لم يطلع عليهِ أحد سوانا وراهب مقيم في دير بحيراء. والسر ذو خطر يستلزم أصغاءً وكتمانًا ونحن معاشر النصارى نعلم خطارة سر الاعتراف وما فيهِ مما يدعو إلى الثقة التامة بأمثالكم».
فقال الناسك: «قل يا ولدي ولا تخف».
فالتفت عبد الله يمينا وشمالا كأنهُ يحاذر أن يسمعهُ أحد وقال: «يظهر لي أنك من أهل العراق».
قال الناسك: «لقد أصبت المرمى نعم إني من أولئك. وما الذي دلك على ذلك».
قال: «دلني عليهِ ملامح وجهك ونوع تعبدك فقد قيل لي انك من النساك الرعاة وهم كثيرون في العراق».
قال: «نعم يا ولدي إني كما قلت».
قال: «في الحالة هذه قل لي هل تعرف الملك النعمان بن المنذر».
فلم يكد عبد الله ينطق باسم النعمان حتى ظهرت البغتة على وجه الناسك وأبرقت عيناه وأقطب حاجباه واجاب وهو يشرأب بعنقهِ ويحدق بعينيهِ: «نعم أعرفهُ».
فعجب عبد الله لتلك المظاهر ولكنهُ تجاهل وقال: «هل تعرفهُ معرفة جيدة أم تسمع باسمه وأخباره فقط».
فقال الناسك (ويده في لحيته يمشطها بأصابعه): «لا بل أعرفهُ كما تعرف ولدك هذا».
قال ذلك بصوت مختنق حتى خيل لهم أنهُ يبكي.
فقال عبد الله: «أراك يا سيدي قد اهتممت لحكايتنا من أوَّل كلمة قلناها».
فتنهد الناسك ويده إلى عينيهِ يمسح بها دموعهِ وقال: «إن ذكرى الملك النعمان تهيج أشجاني وتفتت كبدي فهل يهمكم من أمره ما همني أم جاء ذكره على لسانكم عرضًا».
قال: «بل هو محور حكايتنا ومرجع سرنا رحمهُ الله».
وكان حماد وسلمان شاخصين يعجبان لما يبدو من الناسك وعبد الله يزداد استئناسًا بطلعتهِ ولكنهُ لم يدرك ما الذي يدعوه إلى ذلك.
فقال الناسك: «قل ما تقولهُ عن النعمان إني أرتاح إلى ذكره ولكنني أتأسف لتذكري عاقبة أمره».
فقال عبد الله: «إذا كان النعمان يهمك إلى هذا الحد فانظر إلى هذا الشاب وقل لنا هل تعرفهُ» (وأشار إلى حماد).
فمسح الناسك عينيهِ ونظر إلى حماد وجعل يتفرس فيهِ ولم يكد يتأملهُ حتى صاح بأعلى صوتهُ: «أنهُ ابن النعمان لا شك فيهِ». وهم بهِ وضمهُ وأخذ يقبلهُ.
فخفقت قلوبهم وبكوا جميعًا والناسك ضام حماد إلى صدره يقبلهُ ويبكي.
فازداد عبد الله استغرابًا للأمر وقال للناسك: «لقد أذهلتنا بما بدا منك فكيف تقول أنهُ ابن النعمان وقد كان النعمان أبرش أحمر وهذا أسمر أدعج».
قال: «لا عبرة في ذلك فإن ملامح النعمان قد تمثلت فيهِ وهو الرجل الذي رغبت عن العالم وانقطعت إلى هذه الجبال من أجلهِ».
فبهتوا لهذا القول ولم يفهموا مغزاه فأراد عبد الله أن يستطلع حقيقة الخبر فقال: «وهل تعرف الذي يكلمك».
فنظر إلى عبد الله نظر المتأمل وقال: «العلك صديق الملك النعمان وشريكهُ في مصابه (شمعون الحيرى)». وكان هذا اسم عبد الله المعروف بهِ إذ ذاك.
فانذهلوا جميعًا وخصوصًا عبد الله فأنهُ أعاد نظره إلى الناسك وازداد استئناسًا بهِ ولكنهُ لم يذكر كيف عرفهُ فقال: «أما وقد علمنا أنك شريكنا في الأمر فاخبرنا من أنت وفرج كربتنا».
فصعد الناسك الزفرات وقال: «أما أنا فاني القس الذي ارتد النعمان إلى النصرانية على يده بعد أن كان أسلافهِ قد نبذوها وعادوا إلى الوثنية أو المجوسية ديانة الفرس».
فانتبه عبد الله من غفلتهِ كأنهُ أفاق من رقاد وقال: «العلك القس يعقوب».
قال: «نعم وقد كنت مقيمًا في دير هند الكبرى المنسوب إلى هند بنت الحارث بن عمر بن حجر آكل المرار وهو في ظاهر الحيرة وكانت هند هذه كما تعلمون قد ترهبت فيهِ فسمي باسمها ولكنني كنت أختلف إلى النعمان كثيرًا ويطلعني على أسراره حتى كان ما كان من أمر سجنهِ في خانقين فبرحت الحيرة وسرت إلى هناك وجعلت أتردد إليه في السجن. ألاَّ تذكر أنك كنت تراني هناك».
قال: «أذكر ذلك جيدًا وما زلت منذ رأيتك الآن وأنا في أفكر فيهِ». ثم همَّ عبد الله بهِ وتعانقا وهما يبكيان أما الناسك فتحوَّل نحو حماد وضمهُ وجعل يقبلهُ ويبكي وهو يقول أحمد الله إني رأيتك قبل موتي.
ولبثوا برهة صامتين وكل يبكي ويمسح دموعهِ بكمهِ إلاَّ الناسك فقد كان يمسحهُ ببطن كفهِ.
ثم قال عبد الله: «أقصص علينا بقية الخبر يا حضرة القس المحترم».
قال: «كنت أتردد إليه في السجن أصلي لهُ وأباركهُ وأدعو لهُ وكان كلما اجتمعت بهِ يقول والاهتمام ظاهر على وجههِ: «لدي سر سأطلعك عليهِ في فرصة أخرى» فاهتممت لمعرفة ذلك السر وكنت أتوقع سماعهُ في كل زيارة وهو يسوفه وكنت كلما سرت إليه رأيتك وعجبت لشهامتك وغيرتك عليهِ. فسأَلتهُ عنك يومًا فقال: «انك مستودع أسراره وأنهُ يثق فيك وثوقًا تامًا». ومازلت أختلف إليه حتى أصيب بمرض ظنوه الطاعون ولا أظنهُ إياه. فزرتهُ ولم تكن أنت ساعتئذ هناك فقال لي: «أراني لن أنقه من مرضي هذا ولعل القضاء سيعاجلني وأخاف أن لا أملك فرصة أخاطبك بها». فقلت: «قل يا سيدي ولعل الله شافيك بإذنه وبركة ابنهُ». ثم بكى وبكيت» (قال الناسك ذلك وخنقتهُ العبرات والجميع سكوت يصغون إلى خبره يتطاولون بأعناقهم ويحدقون بأبصارهم في شفتيهِ وهما ترتجفان من شدة التأثير) فسكت الناسك برهة ريثما استرجع قواه. ثم قال: «فأمسكني النعمان رحمهُ الله بيديه وأدناني منهُ واسرَّ إليَّ أمرًا خطيرًا» قال: «أنهُ أسره إليك ولا أدري هل يجوز لي التلفظ بهِ وهو سر الاعتراف».
فقال عبد الله: «لقد قلت إني عارف بهِ فلم يعد من قبيل سر الاعتراف وقد اطلعت ابنهُ ورفيقنا هذا عليهِ».
فقال الناسك: «أما والحال على ما تقول فأخبركم أنهُ أدناني منه وهو جالس على فراشهِ في ذلك السجن وقال: «إني سأقضي نحبي هنا ظلمًا من قوم لا يعرفون الله ولا يشفقون على إنسان وسأترك أهلي وأولادي بدون أن أراهم وأودعهم واني عالم أن سلطان الحيرة سيخرج من بني لخم بعد موتي فأسررت إلى شمعون أن يربي ولدًا لي لم يولد بعد وأن يكتم نسبهُ عنهُ حتى يبلغ العشرين من عمره فيقص شعره في دير بحيرا ثم يطلعهُ على حقيقة نسبهِ» قال: «واعترف لك إني حرضتهُ على أن ينتقم لي من دولة الفرس». قال الناسك: «فلما سمعت كلامهُ اقشعر بدني واستعذت بالله من ذلك كلهُ وقلت: «يا سيدي الملك أراك تستعجل الأجل وليس ما يدعو إلى قربهِ وأما الانتقام فاتركهُ إلى الله سبحانهُ وتعالى وهو الديَّان العظيم». فأجابني والدموع تخنقه: «لقد قضي الأمر يا أبتاه وعهدت بذلك ولا أرى الرجوع عنه والله يقضي بما يشاء» قال النعمان ذلك واختلج صوته وارتعدت فرائصهُ ثم غاب صوابهِ وفيما نحن في ذلك جاء السجان يشدد النكير على من يدخل إلى النعمان فخرجت ولم أعد أراه ثم ما لبثت أن سمعت بانتقالهُ إلى دار البقاء» (قال الناسك ذلك وتنهد) وعلمت وا حسرتاه عليهِ أنهُ لم يمت بخانقين بل نقلوه إلى ساباط فمات فيها.
فلما سمعت ذلك كرهت الدنيا وتحققت فناءها وزدت زهدًا فيها فالتجأت إلى النسك واخترت منهُ أكثره زهدًا وهو هذا الذي أنا فيهِ أعيش على نبات الأرض وأمكث عاريًا كما ترون وكنت مقيمًا في العراق مع رفاق كثيرين من الرهبان وذكر النعمان لم يبرح من ذهني يومًا واحدًا وصورتهُ نصب عيني وهو على ذلك الفراش في خانقين وما زلت أردد كلماتهِ الأخيرة. فأحببت الاطلاع على ما فعلتهُ أنت من هذا القبيل فلم أعرف مقامك ولما مضت بضع عشرة سنة من وفاتهِ ولم أرك ولا عرفت مقرك قلت لعلك تقيم في البلقاء بالقرب من دير بحيراء لأجل وفاء النذر عند حلول الميعاد. فجئت وأقمت في هذا الكهف وفي نفسي شيء أريد أن أطلعك عليهِ فلم أسمع عنكم خبرًا ولا أنا أستطيع البحث لانقطاعي عن الناس فضلًا عن إني لم أكن أعرف اسمك الجديد فكنت أتوقع أن أسمع خبرًا عن شمعون الحيرى فلم أسمع هذا الاسم قط.