دير بحيراء
فركب جواده وما سار قليلًا حتى وصل إلى مرتفع أشرف منهُ على بناءَ كبير شاهده عن بعد وحولهُ الأشجار والبساتين وشاهد رجلًا على حمار يظهر من لباسهِ أنهُ من أهل بصرى فسأَلهُ عن ذلك البناء فقال: «هو دير بحيراء يا سيدي.»
فساق جواده حتى دنا من الدير وهو يخاف أن تكون هند قد سبقتهُ إليه على أنهُ يعلم أن المسافة بين الدير وقصر الغدير لا يتيسر قطعها بأقل من بضع ساعات فلا يتيسر لها المجيء قبل الظهر فأخذ يتأَمل الدير فإذا هو بناءَان أحدهما كبير وفيهِ قبة فوقها صليب علم أنها كنيسة والآخر صومعة على رابية فترجَّل وشد جواده إلى شجرة ولو تركهُ مطلقًا ما خاف فراره لأنهُ أصيل ومشى نحو الكنيسة فإذا هي مبنية على النمط الروماني واسمها كنيسة بحيراء فدخل صحنها حتى جاءَ البيعة فرأى المكان ديرًا وفيهِ كنيسة وشاهد الرهبان والقسس وكلهم من الروم يتكلمون اللغة اللاتينية وبعضهم يتكلم اللغة السريانية الممزوجة بالعبرانية وهي لغة أهل تلك البلاد بعد السبي وشاهد بعضًا آخر يتكلم لغات أخرى فسأَل عن سبب هذا الإختلاط فقال لهُ بعضهم: «أن مدينة بصرى مركز أسقفية بلاد العرب الكبرى وفيها يقيم رئيس الأساقفة ومنها يرسل الأساقفة إلى ما تحتها من الأسقفيات.» فدخل البيعة فزار هيكلها وقبل صورها ثم سأل عن دير بحيراء فقيل لهُ: «هو صومعة بالقرب من هذا الدير.»
فسار إليه فإذا هو على رابيةِ ولكنهُ عجب لنوع بنائهِ ولم يكد يصدق أنهُ بيت لأنهُ عبارة عن خمسة أحجار ضخمة أربعة منها للجدران وواحد للسقف والباب حجر واحد مرتكز على مصراع ورأَى الناس يفتحونهُ ويغلقونهُ بكل سهولة فسأَل رجلًا واقفًا إلى جانبهِ يظهر من هيأتهِ ولباسهِ أنهُ من أهل دمشق فقال لهُ: «ما هذا البناء وكيف يصنعون الأبواب من الحجارة.» فأَجابهُ: «أن هذا النمط من البناء كثير في بلاد حوران لأن أرضهم صخرية والأخشاب فيها قليلة فيصنعون مصاريع أبوابهم ونوافذ بيوتهم من الحجر وقد يبنون منزلًا كثير الغرف وفيهِ النوافذ والأبواب والأروقة والسقوف ولا يدخلون في بنائهِ شيئًا من الخشب قط.»
فوقف هناك ينظر إلى ذلك البناء الغريب ولم يكد يعرف الباب لو لم يرَ الناس يخرجون منهُ فصعد إلى الصومعة حتى وقف عند بابها فإذا هي غرفة مظلمة أشبهُ شيء بالمغارة لخلوها من النوافذ إلا نافذة ضيقة في بعض جوانبها فدخل فرأى أرض الغرفة حجرًا واحدًا أيضًا وفى جدرانها صور أمام كل صورة مصباح ضعيف النور وفى بعض جوانب المكان راهب هرم قد أَرسل لحيتهُ على صدره وتجعد جلد وجههِ إلا أنفهُ فإنهُ ما زال بارزًا كبيرًا وقد تناول بيده سبحة طويلة وجلس الأربعاء على حجر منحوت كالمقعد ملتفا بثوبهِ الرهباني والسبحة في يدهِ والناس يدخلون إليه يتبركون بتقبيل كفهِ وهو يحرك شفتيهِ كأنهُ يدعو لهم فمن زاره سار إلى الدير لزيارة الكنيسة وبجوار الكنيسة غرف لمن أراد الاستراحة أو الإقامة.
فتأَثر حماد لمنظر ذلك الراهب الهرم إذ تمثلت لهُ فيهِ مظاهر الشيخوخة واضحة وضوحًا تامًا ولكنهُ لاحظ أمرًا واحدًا استلفت أنظارهُ وذلك أنهُ رأى لباس هذا الراهب كلباس رهبان النساطرة في العراق وكان قد شاهد كثيرين منهم هناك فتقدم نحوهُ وقبَّل يديهِ فنظر إليه الراهب وتأَملهُ كأنهُ عرفهُ وأمر بالجلوس فجلس وهو أكثر رغبة منهُ في مجالستهِ لأنهُ ودَّ كثيرًا أن يعرف قصة ذلك البناء وكان حمَّاد قد تعلم كل علوم تلك الأيام في مدرسة الرهبان الشهيرة بالعراق فتثقف عقلهُ وصار محبًا للاطلاع فلما رأَى في ذلك الراهب ارتياحًا إلى مجالستهِ سرَّ سرورًا عظيمًا وتربع حالًا فقال لهُ الراهب: «أَلعلك من عرب العراق يا ولدي.»
فتعجب حماد لسؤَالهِ فقال: «نعم يا سيدي وكيف عرفت ذلك.» قال: «عرفتهُ من ملامح وجهك لأني عاشرت عرب العراق زمنًا. وهل أنت مقيم هنا أم جئت مسافرًا.»
قال: «جئت لأفي نذرًا عليَّ لهذا الدير.»
قال: «وما هو نذرك.»
قال: «نذرني والدي أن لا يقصَّ شعري أولاَّ إلا في هذا الدير وأنهُ لا يقصهُ إلا بعد مضي السنة الحادية والعشرين من عمري وسيكون ذلك في أحد الشعانين القادم فجئت اليوم لنيل البركة والتمتع بمنظر هذه الصومعة إذ كثيرًا ما حدثنا أهل بصرى عن الراهب بحيراء. ألعلك أنت هو يا سيدي.»
قال: «لا يا ولدي إن الذي تطلبهُ قد قتلهُ بعض الأشرار غيلة.»
قال: «كيف قتلوه ولماذا فإني كثير الميل إلى استطلاع خبره.» وقد أراد حماد الانشغال بالحديث لتمضية الوقت ريثما تأتى هند لأن الانتظار صعب.