انذر القاتل بالقتل
قال عبد الله: «وما الذي في نفسك وتريد أن تطلعني عليهِ؟ قلهُ».
قال: «هو خبر يتعلق بوصية النعمان لك ولابنهُ فاحك لي ما تم معك من قبيل النذر هل وفيتهُ واطلعت هذا الملك على حقيقة نسبهِ».
قال عبد الله: «نعم يا مولاي لقد وفينا النذر بعد ميعاده». وأحكى لهُ القصة من أولها إلى أخرها حتى آتى على سبب مجيئهم إليه فقال: «وقد جئنا إليك لعظم ما قام في نفس مولانا الملك من الاهتمام في أمر الانتقام فقلنا نطلع ناسك حوران على هذا السر لعلهُ يشير علينا مشورة تخفف ما بنا. أو تهدينا سبيلًا مستقيمًا».
فقال الناسك: «لقد وقعتم على خبير وإن في بقية قصتي ما يفرج عنكم كل كرب إن شاء الله».
فاستبشر عبد الله وحماد وسلمان بانفراج الأزمة وسروًا لقدومهم على هذا الناسك فقال عبد الله: «اخبرنا ببقية قصتك بورك فيك».
قال: «كنت لفرط اهتمامي في أمر الملك النعمان وأمر وصيتهُ وما تتضمنهُ من الحث على الانتقام لا أبرح أفكر في هذا الأمر نهارًا وأحلم بهِ ليلًا حتى استيقظت ذات صباح والناس يتحدثون بأمر كسرى برويز قاتل النعمان وان ابنهُ شيرويه تآمر عليهِ وسجنه فقلت في نفسي هذه عاقبة القوم الظالمين. ثم ما لبثت أن سمعت بأنهُ قتلهُ فاعتبرت بحكمة الله سبحانهُ وتعالى وشعرت براحة فبت ليلة ذلك الخبر وأنا هادس في عاقبة الظالمين وقول القائل «وانذر القاتل بالقتل». فرأيت في منامي كأن الملك النعمان قادم إليَّ بلباس ناصع البياض ووجه منير باسم فخشعت لرؤيتهُ على هذه الصورة ثم سمعتهُ يقول: «لا تعجب يا يعقوب لمقتل برويز المجوسي فقد أعد لهُ الله ما هو أعظم من ذلك ليعتبر القوم الظالمون».
فقلت وقد بهرني نور وجههُ فأطرقت: «وماذا عسى أن يكون أعظم من الموت قتلا بسيف البنين».
فقال لي: «سوف ترى وكل آت قريب». فرفعت نظري لأراه فغاب عن بصري واستيقظت من منامي مذعورًا ولم تمض بضع سنوات حتى وقع في سلالة برويز ما لم نسمع بمثلهُ في غابر الأزمان. أتدرون ما هو؟»
قال عبد الله: «وماذا تعني؟»
قال: «كان لبرويز هذا ثمانية عشر ولدًا كلهم ذوو أدب وشجاعة ومروءة منهم شيرويه الذي تولى الملك بعده فوشى رجل اسمهُ فيروز لشيرويه على إخوته السبعة عشر فأمر بقتلهم جميعًا فقتلوا صبرًا في ساحة الإيوان وهو ينظر إليهم ولكن شيرويه لم يهدأ لهُ بال بعد عملهِ هذا فإن أختيهِ بوران وآزر ميدخت وبختاه توبيخًا شديدًا فبكى بكاء مرًا ورمى بالتاج عن رأسه ولم يزل بقية أيامه مهمومًا دنفا ولاقى المصائب الكبرى وفي جملتها طاعون فشا في بلاده فأباد من قدر عليهِ من أهل بيتهِ وأخيرًا مات هو كئيبًا حزينًا. فهل أشد وطأة من هذا الانتقام. وزارني ملاك النعمان بعد هذه الحوادث وهو يضحك وأمارات البشر ظاهرة على وجههِ فهممت بالوقوف للقائهِ فشعرت بنفسي ثقيلًا لا أستطيع النهوض فابتدرني هو قائلًا: «لقد انتقم لي الله من برويز المجوسي فطابت نفسي وأرى وصيتي لولدي حملًا ثقيلًا على عاتقي فقد شعرت بضعف بني الإنسان وعلمت الإصابة في قولك وأنا في سجن خانقين». قال ذلك وتوارى عن بصري وأنا راقد لا أستطيع حراكًا ثم استيقظت وصورة النعمان أمام عينى ويكاد النور ينبثق من وجههِ».
فلما بلغ الناسك إلى هذا الحد من حكايتهِ شعر كل من السامعين بانفراج الأزمة وخصوصًا حماد فإنهُ أحس بحمل ثقيل نزل عن ظهره.
أما سلمان فكان إلى ذلك الحين صامتًا لم يفه بكلمة فلما فرغ الناسك من كلامهِ وقف سلمان وهمَّ بيد الناسك فقبلها وقال: «لقد أتيتنا فرجًا من عند الله ولكن قلوبنا لا تشتفي إلاَّ بعمل نعملهُ على قهر أولئك الكفرة الغاشمين».
فنظر الناسك إليه وتبسم تبسمًا قلما تعوده وقال: «تلك أعمال الله يا ولدي وسنسمع بذهاب دولة الفرس قريبًا فلا يبقى ثم من تنتقمون منهُ».
فلم يفهموا مغزى كلامهُ فقال عبد الله: «هل تعني شيئًا محدودًا أوحى إليك مما في سابق علم الله فأنكم معشر النساك ذوو كرامة يفتح عليكم ما لا يفتح على سواكم».
قال الناسك: «أشير إلى أمر لا يحتاج إلى وحي أو كرامة بل هو ظاهر يفهمهُ كل عاقل. إلاَّ ترى حال الفرس واختلال شؤونهم واضطراب أحوالهم حتى توالى على كرسي ملكم خمسة ملوك في خمس سنين وكل يعمل على الاستئثار بالسلطة وإبادة الآخرين وأضعفهم رأيا يزدجرد الذي يتولى الملك الآن وستزول دولة الفرس على يده ناهيك عن ظلمهم وجورهم. إلاَّ يدلكم ذلك على شيخوخة دولتهم وهرمها وقرب انقضاء أجلها وللدول آجال كآجال الناس تمر في أدوار تنتهي بالموت ودولة الفرس قد بلغت شيخوختها ولا تلبث أن تنقضي وكذلك دولة الروم الحاكمة على هذه البلاد».
قال عبد الله: «ولكن لا تنقضي إلاَّ على يد دولة أخرى تقوم مقامها فمن سيخلف هاتين الدولتين». قال: «أما سمعتم برؤيا الراهب بحيراء الذي كان يقيم في ديره هنا».
قالوا: «كلا» إلاَّ حماد فأنهُ تذكر ما سمعهُ من الراهب الشيخ في تلك الصومعة يوم جاءها لملاقاة هند هناك. فقال: «بلى سمعت ذلك من الراهب الشيخ فقد أحكى لي مرة أن بحيراء رأى في منامه فتى جميل المنظر مولده برج الثور والزهرة مع قران المشترى وزحل وعلم منهُ أنهُ هو الذي سيهدى أبناء جلدتهِ بني إسماعيل (وهم العرب) إلى معرفة الله وإن بهِ يقوى أمرهم ويشتد أزرهم وتجتمع كلمتهم فيذللون أبناء عمهم بني إسحاق ويتسلطون عليهم مدة توافق ما أشار إليه دانيال في نبوءتهِ وأنهُ يخرج من أولئك العرب اثنا عشرة دولة أليس ذلك ما تعنيهِ».
قال الناسك: «هذا ما عنيتهُ وأزيد عليهِ أن الرجل المنتظر قد ظهر في جزيرة العرب ودعا الناس فيها إلى عبادة الله ونبذ الأوثان وقد فتح مكة وكسر أصنام الكعبة وانتشر سلطانهُ في الحجاز واليمن وسيفتح الشام والعراق وهو الذي سيخلف الفرس والروم في سلطانهما».
فقال حماد: «لقد شاهدنا قوتهِ وسلطانهُ بأعيننا يوم فتح مكة وكان يومًا مشهودا ويظهر من رغبته في سبيل الله واستهلاك أنصاره وأصحابهِ في نصرتهِ أن دولته ستغلب الدول كلها إن عاجلًا وإن آجلًا».
قال: «فلستم إذن في ما يدعو إلى تكبد الخطر في الانتقام من أكاسرة الفرس وقد رأيتم أن قاتل حبيبنا النعمان قُتل هو وأولاده شر قتلة وسيتم العرب على دولتهم إن شاء الله».
فوقع كلام الناسك على قلب حماد بردًا وسلامًا فارتاح بالهُ من أمر الانتقام المعجل وانصرف فكره إلى هند وشعر بميل شديد إلى رؤيتها وخاف أن تسيء الظن بهِ إذا طال غيابهِ بعد يوم الشعانين وهمَّ في اليوم الثانى منهُ فتظاهر بميلهُ إلى الانصراف فأَدرك عبد الله ذلك فقال للناسك: «أتأذن لنا بالذهاب على أن نغتنم الفرص في زيارتك حينا بعد حين وهل تطلب منا أمرًا نقضيه لك».
قال: «لا أريد من هذا العالم شيئًا فقد رأَيتم زهدي بهِ ولم يكن في نفسي شيء غير رؤية ابن حبيبي النعمان لأقص عليهِ ما اؤتمنت عليهِ مما خاطبني بهِ والده في الحلم فأحمد الله على نيل بغيتي فإذا مت الآن فإني أتوسد قرير العين ناعم البال».
فقال عبد الله: «أطال الله بقاءك ونرجو أن نراك كثيرًا». قال ذلك ونهض فنهضوا جميعًا وودعوا الناسك وانصرفوا على أفراسهم وكأَن على رؤوسهم الطير.
أما حماد فإن ذهنهِ تفرغ للافتكار بهند وأحس برغبتهِ في اطلاعها على حقيقة نسبهِ فلما وصلوا إلى الدير مروا بغرفة الراهب الشيخ فدخلوها ليطلعوه على ما دار بينهم وبين الناسك فلما أنبأوه بما علموه من أمره أطرق يفكر بغرائب الحدثان ثم قال: «لقد خيل لي منذ رأيت هذا الناسك أنهُ لم يغادر خضب العراق ويقيم في هذه الجبال المجدبة إلاَّ لدافع دفعه إلى ذلك وقد صدق ظني ويسرني أنهُ أطلعكم على ما خفف قلقكم وهوَّن عليكم فما أنتم في عجل للقيام بالوصية وقد كفاكم الله مئوونة ذلك أما ما قالهُ عن قوة المسلمين وعظم دولتهم حتى يخشى على الروم والفرس منها فقد أيدتهُ الحوادث الجارية فإن تلك الشرذمة من الحجازيين لم يكادوا يقومون بدعوتهم حتى ملأوا جزيرة العرب فتحًا وقتالًا فدانت لهم قبائل اليمن وعمان واليمامة ونجد وقد شهد حماد وسلمان فتح مكة ورأيا بطش هؤلاء العرب وقوة جامعتهم ولقد شهد من رأى حربهم في مؤّتة هنا أنهم كافحوا كفاح الأسود وصبروا على الحرب صبر الرجال ولكنها أول مرة لاقوا بها جند الروم ولم يكونوا في عدة كافية فلم يفوزوا والظاهر أن وقعة مؤتة كانت أمثولة لهُم علمتهم كيف تؤكل الكتف حتى إذا رأوا في جندهم الكفاءة أعادوا الكرة ليس على الشام فقط بل على العراق أيضًا».
فقال عبد الله: «وهل علمت أنهم حملوا على العراق؟»
قال: «نعم أنهم حملوا عليهِ حملة إذا لم يكن فوزهم بها تاما فلا أقل من أن يؤذوا الفرس ويضيقوا عليهِم».
فقال حماد: «وكيف عرفت ذلك يا مولاي؟»
قال: «أخبرنى بذلك تاجر من أهل مكة تعودنا لقاءه هنا كل عام أو عامين ولي معهُ صداقة ودالة فقد مر بي من بضعة أيام وأطلعني على حوادث تلك الدولة بعد فتح مكة حتى الساعة فإذا هي ما يخيفنا على دولتي الروم والفرس وكنت أظنكم عالمين بها».
قال عبد الله: «كلا يا مولاي أننا غير عالمين بشيء من ذلك».
قال الراهب: «أخبرني التاجر أن أولئك الحجازيين بعد أن فتحوا مكة عادوا إلى المدينة وأنفذوا جندًا منهم إلى من بقي في جزيرة العرب لم يرضخ للإسلام فغزوا غزوات عدة فازوا بها كلها ومن أكبر قوادهم رجل منهم يقال لهُ «خالد بن الوليد» أتى بالمعجزات في حروبهِ حتى سماه النبي «سيف الله» ومنهم علي بن أبي طالب ابن عم النبي وهو بطل مجرب. وكذلك رجل شيخ من كبار مشيريهم اسمه عبد الله ابن أبي قحافة لقبهُ بالصديق ويسمى أبا بكر وهو حمو النبيّ والد امرأتهِ عائشة. ومنهم رجل آخر يندر مثالهُ في العالم بشدة البطش وصدق الغيرة على الحق اسمه عمر بن الخطاب وآخر اسمه عمرو بن العاص وغير هؤلاء جماعة كبيرة فتمكن بذلك من إذلال قبائل العرب حتى أنهُ لم يعد يحتاج في إذلالهم إلى إرسال الرجال بل كانوا يفدون عليهِ وفودا يلتمسون الدخول في دينه عن رضى وطيبة خاطر فرأى الوقت اللازم لفتح الشام قد آن فجند جيشًا بقيادة رجل اسمهُ أسامة بن زيد وأمره أن يسير إلى فتح الشام وفيما هو في ذلك وافاه القدر فتوفي قبل مسير الجند ولكنهُ خلف أبطالا قاموا بنصرة دينه فتولى الخلافة بعده حموه أبو بكر المتقدم ذكره وهو شيخ جليل القدر وأخبرني التاجر أن المسلمين لما مات النبيّ اختلفوا في من يولونهُ الخلافة بعده لأنهم قسمان قسم يقال لهم الأنصار وقسم يقال لهم المهاجرون».
فقال حماد: «وما معنى هذه الأحزاب هل هي مذاهب دينيه كالتي عندنا».
قال: «لا يا ولدي إن المهاجرين هم الذين هاجرو مع النبيّ من مكة إلى المدينة يوم شدد أهلهُ النكير عليهِ هناك فتبعه من قريش أكثرهم غيرة عليهِ فسموا المهاجرين وأما الأنصار فهم أهل المدينة الذين قاموا بنصرته لما جاءهم مهاجرًا فحاربوا معهُ فسموا الأنصار. فكل من الأنصار والمهاجرين يظن نفسهُ أولى بالخلافة فاختلفوا في من يتولاها حتى كادت تقوم بينهم فتنة. ويظن صاحبنا التاجر المكي أن الفضل في فض هذا المشكل لأحد المهاجرين عمر بن الخطاب وقد ذكرتهُ لكم الآن فهو الذي توسط في الأمر وبايع أبا بكر فبايعه الناس احتراما لهُ أو خوفا منهُ فصارت الخلافة في المهاجرين وهم من قبيلة النبيّ (قريش) فخليفة المسلمين الآن أبو بكر الصديق هذا.
فلما توفي النبيّ تغيرت قلوب بعض أهل جزيرة العرب ممن اعتنقوا الإسلام في حياته فارتد كثيرون منهم إلى ما كانوا عليهِ من النصرانية أو اليهِودية أو غيرهما فتهيب المسلمون لذلك فاجتمعوا وأوعزوا إلى أبي بكر أن يعدل عن إرسال الجند إلى الشام لاحتياجهم إليهم في اقماع المرتدين فأبى إلاَّ إنفاذ ما أمر بهِ النبي فأرسل أسامة وجنده إلى الشام ومما أحكاه لي التاجر المكي حكاية وقعت لأبي بكر هذا يستغربها كل من عاشر حكامنا من الروم أو الفرس».
فقال عبد الله: «وما هي؟» قال الراهب: «أخبرني التاجر أن أبا بكر رافق ذلك الجند في خروجهم من المدينة وكان أسامة راكبًا وأبو بكر ماشيًا فخجل أسامة من ذلك لأنهُ شاب وذاك شيخ فضلًا عن كونه رئيسه فتقدم إليه أن يمشي هو ويركب أبو بكر فأبى إلاَّ أن يشيعهم ماشيا ويدل ذلك على رغبة حكامهم في الخدمة لا الرئاسة وما أوصاهم بهِ قبل عودتهِ قولهُ: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تقعروا نخلًا أو تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا». هل سمعتم مثل ذلك من رؤسائنا لا أنكر عليكم أن النصرانية تأمرنا بمثل ذلك ولكن حكامنا نبذوا الدين نبذ النواة وسيعود ذلك عليهم وبالا». قال الراهب: «ذلك وقد أخذت الحدة منهُ مأخذا عظيما حتى ارتجف صوته وارتعشت لحيته ثم سكت».
وكان عبد الله وحماد وسلمان متطاولين بأعناقهم يسمعون حديث الراهب وقد زادهم تأثرا ما آنسوه من اهتمامه فقال عبد الله: «إن مثل هؤلاء لا بد من أن يغلبوا العالم ويفتحوا الأمصار فعساهم أن يبدأوا بالعراق وينقذونا من دولة الفرس الظالمة».
فقال الراهب وقد تنفس الصعداء: «انك تتمنى أمرا قد وقع فعلًا فإن جيش أسامة هذا لم تطل غيبتهِ لعلمهِ أن الخليفة أحوج إلى نصرتهِ في قتال أهل الردة مما بفتح الشام فعاد بجنده وانضم إلى المسلمين في حروب أهل الردة. ومما زاد الأمر أشكالًا أناس أدعوا النبوة منهُم رجل اسمه أسود العنسي في اليمن فالتف حولهُ حزب كبير ورجل آخر اسمه طليحة الأسدي من بني أسد في نجد وآخر اسمه مسيلمة في اليمامة وآخر اسمه ذو التاج لقيط بن مالك وغيرهم من المتنبئين ودعاة الأحكام حتى لم تبق قبيلة من قبائل اليمن وحضرموت وعمان والبحرين واليمامة ومهرة إلاَّ نبذت طاعة المسلمين وارتدوا عن الإسلام فخاف المسلمون الفشل ولكن أبا بكر تصرف بحكمة ودراية وساعده في ذلك قواده المحنكون وخصوصًا خالد ابن الوليد فأنهُ عمل أعمالًا غريبة وكذلك عمرو بن العاص وغيرهما فقضوا في سنة كاملة حتى دانت الكفاح قبائل العرب واجتمعت كلمتهم واستقام أمرهم».
فقال حماد: «يا حبذا لو يسير خالد الذي ذكرتهُ إلى العراق».
فضحك الراهب ضحكة يتخللها عبوس وقال: «لقد أصبت يا ولدي فأنهُ عمل ما أردته فسار خالد هذا إلى العراق لفتح الحيرة وقتال الفرس».
فهب سلمان للحال وقال لحماد: «إلاَّ يأذن لي مولاي بالمسير إلى الحيرة إني لا يهدأ لي بال إن لم أبل يدي بدم الفرس فلعلي أن أشهد بعض المواقع أو أخدم المسلمين خدمة تساعدهم في إنقاذنا من أولئك القوم المجوس».
فقال حماد: «إني أولى منك بذلك ولقد كنت عازمًا على التماسه لو لم تلتمسه أنت».
قال سلمان: «أما أنت فقد طال غيابك عن أمير غسان وأميرته فسر إليهما وعساي أن أعود إليكم قريبًا بخبر النصر».
فانتبهِ حماد لأمره مع هند فاغتنم وجوده عند الراهب فرصة لاستفتائه بأمر الاقتران بعد حكاية الوصية ولكنهُ استحى فخاطب عبد الله على انفراد قائلًا: «أتظن أنهُ يجوز لنا المخاطبة بأمر الزيجة أم نحن لا نزال مقيدين بالوصية».
قال عبد الله: «دعني أسأل الراهب ويأخذ رأيه فما يشير بهِ نفعلهُ». وتحول نحو الراهب فسألهُ، فقال الراهب: «يظهر من خطاب الناسك لكم أنهُ يحلكم من ذلك القيد وفي العدول عن الانتقام فضيلة مسيحية كما تعلمون لأن ديانتنا توصينا بمحبة عدونا ومباركة لاعنينا وتحظر علينا الانتقام».
فسر حماد لهذه الفتوى وسكت حتى إذا خرجوا من عند الراهب انفرد بعبد الله وقال لهُ: «إلاَّ ترى أن نذهب غدًا إلى البلقاء نقابل جبلة وأنت معي فقد فرغنا من حكاية النذر وآن لكما الاجتماع وخصوصًا بعد أن ظهر ما ظهر من رفيع نسبنا».
فقال عبد الله: «أرى يا مولاي أن تبقي أمر نسبك مكتومًا كما كان لنرى ماذا يجد من حوادث الزمان».
فأجفل حماد وقال: «ولماذا نكتمهُ وهو شرف يتسابق إليه الناس وخصوصًا أنهم اعترضوا على زواجي بهِند لغموض نسبي فهل أبقيه غامضًا».
ففكر عبد الله هنيهة ثم قال: «وأرى مع ذلك أن لا تذكرهُ وعلى كل حال فالأمر راجع إليك».
فسكت حماد وكانا قد وصلا باب الغرفة وسلمان يتبعهما وقد أدرك أنهما يتكلمان بشأن هند فتقهقر قليلًا فلما وصلا الغرفة التفت حماد ونادى سلمان فأسرع وهو يقول أتقدم إليك يا مولاي أن تأذن لي بالذهاب إلى الحيرة غدًا صباحا وإن يكن يعز عليَّ أن لا أشهد الاحتفال باقترانك ولكنني لا ألبث أن أعود إليكم بما يسرَّكم إن شاء الله وأرجو أن تذكروني في حفلة الزواج وأنا أذكركم في ساحة الحرب.
فقال عبد الله لحماد: «دعه يذهب يا سيدي لعلهُ يأتينا بخبر فقد انتهينا من المشاكل والأسرار ولا نظننا نحتاج إليه في شيء وقد تقرر لك الاقتران بهند ورضي والدها ووفينا النذر فليذهب».
فقال حماد: «اذهب يا سلمان بحراسة الله ولا تقطع عنا أخبارك».
فقضى سلمان ليلتهُ تلك يستعد للمسير إلى العراق وفي الصباح ودع حمادًا وعبد الله وبكى لوداعهما وسار إلى الناسك يلتمس بركته ودعاءه قبل المسير.
فلما خلا حماد بعبد الله قال لهُ: «دعنا نسير إلى جبلة أو هيا بنا إلى صرح الغدير أم هناك سر يمنع ذهابنا واقتراننا ألم يأن لنا أن نخلص من العراقيل».
قال: «لقد آن الوقت وعلم سيدي إني لم أؤخر اقترانهِ عبثًا ألم يكن في السرُّ ما يدعو إلى ذلك».
قال: «بلى واني لا أنسى جميلًا صنعتهُ معي يا عبد الله ولكنني أعترف لك اعترافًا صريحًا بأن اطلاعي على نسبي قد قلل أسباب سعادتي واحسبني كنت أسعد حالًا يوم كنت حماد بن الأمير عبد الله أما وأنا المنذر بن النعمان فأراني تعيسًا يتيمًا مظلومًا».
قال عبد الله: «كنت أتوقع ذلك منك ولكنني لم أر بدًا من أن أقص عليك خبرًا عهد بهِ إليَّ أمانة مقدسة».
قال: «لم أقل أنك أخطأت باطلاعي على حقيقة نسبي فقد فعلت الواجب على أنني لم أتصور هندًا ومعيشتي معها أسلو الدنيا ومتاعبها».
قال عبد الله: «وزد على ذلك أنك ستكون عما قليل ملك غسان والغساسنة لا يقلون سطوة وبطشًا على ملوك الحيرة فضلًا عن علاقتهم بالروم وهي دولة مسيحية وذلك خير من علاقة أجدادك المناذرة بالفرس والفرس مجوس يعبدون النار كما تعلم».
فانبسط وجه حماد لذلك فقال: «أنذهب معًا إلى صرح الغدير». قال: «لو علمت أن جبلة هناك لذهبت معك لأن من اللياقة أن ألاقيهِ فمتى تعارفنا جاز لي الذهاب إلى الصرح». فقال: «إذن أذهب أنا فالتمس لك موعدًا نجتمع فيهِ بجبلة ونتم الاقتران».
قال: «حسنًا تفعل». فأخذ حماد يعد جواده للركوب.