البرد والخاتم
أما هند فلم يأت يوم الشعانين حتى ملت الانتظار وكانت تتوقع أن ترى حمادًا في مساء ذلك اليوم أو في صباح الغد فمضى اليوم والغد وهي تعد الساعات والدقائق وتحسب لتأخره غير حساب فلما كان اليوم الثالث أفاقت من رقادها قلقة البال فنهضت وسارت إلى غرفة والدتها والتمست منها أن ترافقها إلى دير بحيراء أو تأذن لها بالذهاب إليه وحدها.
فقالت سعدى: «لا أرى أن نفعل ولا أن تفعلي فلو رأى حماد المجيء إلينا لجاء فربما كان في سر والده ما يمنعه عن المجيء».
قالت: «ما تعنين يا أماه».
قالت: «لا أعني شيئًا ولكنني لم يعجبني أمر والده هذا فكم تدلل وتعزز فقد صاهرنا ولده على غموض نسبهِ وأكرمناه والتمسنا لقياه فلم يأت وها قد انقضى موعده من يوم الشعانين فلا أظن إلاَّ في الأمر دخيلة».
فانقبضت نفس هند عند ذلك وقالت: «لا تلومي الغائب قبل حضورهُ فربما منعهُ عن زيارتنا مرض أو شاغل ذو بال وأما ما أشرت إليه من تدلل والدهُ أو كبريائهُ فلا أظنهُ في محلهُ وليس ثم ما يسوغ لهُ ذلك».
وسكتتا هنيهة مطرقتين ثم قالت سعدى: «نعم يجب علينا أن نبحث عنهُ وعن سبب غيابهِ فلننتظر هذا اليوم أيضًا فإذا لم يأت أنفذنا إليه رسولًا».
فخرجت هند وهي هاجسه في أمر حماد فلبست ثوبها وخرجت إلى الحديقة تشغل نفسهُا بأزهار الربيع وعيناها شائعتان من بين الأشجار وقد هب عليها النسيم فتعاظم حفيف الأوراق وعلت أصوات الطيور مغردة وهند تود انقطاع النسيم وخرس الأطيار مخافة أن تحول تلك الضوضاء بينها وبين وقع أقدام حماد إذا جاءها ماشيًا بين الأشجار أو تخفي صوت جواده إذا صهل عند استقبال الصرح. وفيما هي جالسة على حجر هناك تفكر في ذلك وتحدق بعينها وتصيخ بسمعهُا وقد صارت الشمس في الهاجرة رأت فارسًا قادمًا عن بعد عرفتهُ من جواده وظاهر لباسهُ أنهُ حماد فهرولت إلى والدتها وأنبأتها بقدومهِ فدخلتا إلى قاعة الجلوس حتى جاءها مخبر بقدومه فخرجت سعدى للقائهُ ورحبت بهِ فقبل يدها ودخلا الصرح وكانت هند عند الباب فسلم عليها ودخلوا جميعًا إلى قاعة الجلوس وقد آنست هند في وجه حماد تغييرا بعد قص الشعر ولكنها عجبت لمجيئهُ وحدهُ وأرادت الاستفهام عن السبب فمنعها الحياء على أن والدتها ابتدرتهُ بالسؤال عن والده.
فقال: «أنهُ كان عازمًا على المجيء معي ولكنهُ رأى من اللياقة أن يقابل ملك غسان قبلًا ولو كان سيدي العم هنا لانفذنا إلى والدي فيحضر حالًا».
فقالت: «جعل الله نذركم مقبولًا هل قصصت شعرك يا ولدي؟»
قال: «نعم». قالت: «وهل سمعت الحكاية». قال: «نعم سمعتها». وحدثتهُ نفسهِ أن يبيح بها فتذكر تحذير عبد الله فأمسك ولكنهُ رأى سكوتهِ عنها بالمرة تحقيرًا للسائل.
أما سعدى فلم تزد على هذا السؤال تأدبًا فلما لم يجبها غيرت الحديث وسألتهُ إذا كان يسره الخروج إلى الحديقة وهو يود ذلك لعلمهِ أنهُ قد يخلو هناك بهِند فيتعاتبان أو يتغازلان.
فخرجوا من باب خصوصي صغير وتخلفت سعدى في القصر توصي قيمة القصر بإعداد الغداء.
فمشى حماد وهند في طرقات الحديقة حتى انحدرا إلى ضفة الغدير وماؤهُ يجري على حصباء تتلألأ تحته كأنها الدر وقد فاحت روائح الأزهار وغلبت عليها رائحة زهر اللوز وزهر البرتقال وعلت ضوضاء الأطيار وحفيف الأشجار ولو كان لنا فوتوغراف أديسن أو أشعة رونتجن لرأينا قلبي هذين المحبين يتناجيان ويتفاهمان.
أما هند فما صدقت أنها خلت بحماد حتى نظرت إليه شذرًا وهي تبتسم وعيناها مشرقتان تتلألآن وقالت: «ما الذي دعاك إلى التعجيل في زيارتنا أما كان الأدل على شوقك أن تبقي زيارتك إلى عيد الفصح»!
فأدرك مرادها فأحب أن يعبث بها فقال: «تركنا يوم الفصح لمقابلة والدك بشأن الإكليل أم ترين تأجيل ذلك إلى الأحد الجديد».
فخجلت وأطرقت وقد توردت وجنتاها فازداد إشراق وجهها وقالت: «لو عرفت أنك تجيبني بمثل ذلك ما أقدمت على سؤالك».
قال وقد أعجبهِ خجلها وازداد هيامهُ بها: «لم أكن أظن ذكر الاقتران يسوءك ونحن إنما نسعى جهدنا في الحصول عليهِ». قال ذلك ونظر إليها كأنهُ ينتظر جوابها. أما هي فحولت وجههُا عنه وخطوت نحو شجرة من البرتقال تقطف زهرة تتلاهى بشمها عن سماع كلامه.
فتبعها حماد وهو يقول ما بالك تهربين مني يا هند فإذا كنت تريدين التخلص من قرابتي قولي لي كما قال غيرك أن نسبي غامض فلا أستحق بنت ملك غسان.
فلم تجبهُ ولا على هذا وقد كان يتوقع أن يجرهما الحديث إلى حكاية السرّ ليخبرها بحقيقة نسبهِ ويرى ما يبدو منها وخاف أن تأتي والدتها فينقطع الحديث فدار نحوها حتى قابلها وجهًا لوجهِ وأمسك يدها فأحس كلاهما بقشعريرة الحب فقال حماد: «لم تسأليني عن حكاية السر ما هي».
فقالت لهُ (وهي ممسكة يده تنظر إليها): «يظهر أن حكاية السر عزيزة لديك لا نستحق سماعها».
فأدرك أنها توبخه لسكوته عن سؤال والدتها فقال: «لا يعز عنكم شيء يا حبيبتى». قال ذلك ومدَّ يده إلى جيبهِ فاستخرج خاتمًا دفعه إليها وقال: «هذا هو سرنا فانظري إليه».
فتناولت الخاتم وتأملتهُ فإذا هو مكتوب بحرف لا نعرفه فقالت: «أنهُ لا يزال سرًا إذ لا أستطيع قراءته». فقال: «أنا أقرأهُ لك ثم قرأ «النعمان ابن المنذر».».
فلم تفهم المراد فقالت: «وما معنى ذلك».
قال: «معناه أن نسبي الذي كان غامضا عنك وعني كان مختبئًا في هذا الخاتم».
فانعمت فكرها في مغزى كلامه فأدركت أنهُ ينتسب إلى النعمان ولكنها استبعدت ذلك فقالت: «العلك تنتسب إلى الملك النعمان».
قال: «بل هو أبي». وجعل ينظر إلى ما يبدو منها فرآها قد استغربت قولهُ ولا تزال في حال البغتة ولكن الإعجاب والسرور ظهرا على وجههُا معا على أن الأنفة والرزانة منعتها من إظهار البغتة فقالت: «ومن أنبأك بهِذا النسب وكيف خفي عنك إلى الآن».
قال: «لذلك حديث طويل سأقصهُ عليك في غير هذا المكان وإذا كان الخاتم لا يكفيك فانظرى إلى هذا الرداء» وكشف عباءَتهِ عن برد النعمان وكان تحت أثوابهِ فنظرت إليه فلما تحققت نسبهِ عظم في عينيها ولكن الاستغراب غلب عليها وهي تحسب نفسهُا في حلم.
ثم سمعا وقع أقدام من ناحية القصر فنظرا وإذا بوالدتها قادمة فأسرع حماد إلى الخاتم فخبأه وطلب إلى هند كتمان الحديث الآن. أما هي فرغمًا عن رزانتها وتعقلها ودت أن تطلع والدتها على ذلك الخبر.
أما سعدى فأنها جاءت مسرعة وفي وجههُا خبر.
فنظرا إليها وهما يتوقعان خبرًا فقالت: «لقد أطلت الغياب عليكما لانشغالي برسول قدم من عند الملك جبلة ومعهُ هذا الكتاب» ودفعت الكتاب إلى هند ففضتهُ فإذا هو من والدها يقول فيهِ: «هل عرفتم شيئًا عن ولدنا حماد وهل وفى نذره فاني أحب أن أراه قبل سفري إلى الإمبراطور فقد أنفذ إليّ رسالة بالذهاب إليه لمهمة سأقصها عليكم عند الاجتماع».
فقالت سعدى: «اكتبي إليه أنهُ جاء وقد وفى النذر».
فقال حماد: «أرى أن أسير إلى والدي وأجيء بهِ ليتشرف بمعرفة الملك جبلة أيضًا».
قالت: «حسنًا تفعل» فعادوا إلى القصر وكتبوا إلى جبلة بذلك على أن يكون مجيئه في الغد.
وكانت المائدة قد أعدت فتناولوا الطعام وركب حماد إلى دير بحيراء.