كل سرّ جاوز الاثنين شاع
وأما هند فما زالت تفكر بما سمعتهُ من حماد عن نسبهِ وأدركت والدتها فيها تغيرا ظاهرًا على وجههُا يدل على شيء في نفسهُا تكتمهُ فلما كان المساء ذهبت هند إلى فراشها فجاءتها سعدى وأخذت تجاذبها أطراف الحديث حتى باحت لها بالسر فلم تكن سعدى أقل استغرابًا من هند وحسنت لها أن تطلعا والدها على ذلك.
فلما جاء جبلة في ضحى الغد أنبأته بالخبر وكانت تتوقع منهُ ارتياحًا واستحسانًا ولكنها رأت انقباضًا فندمت على تصريحها بالسر وخافت أن يترتب على ذلك ما يسوؤها وكان خوفها في محلهُ. لأن جبلة ما لبث منذ سمع ذلك الخبر منقبض النفس غارقًا في بحار التأمل لعلمهُ أن حمادًا إذا تزوج هند سيكون وريثهُ في المُلك إذ ليس لهُ ذكور يرثونهُ فإذا كان حماد من عامة الناس بقي الملك باسم الغساسنة ولكنهُ رأى بعد علمهِ من انتسابهِ إلى المناذرة أن المُلك سيخرج بهِ من الغساسنة إلى المناذرة فيكون قد سعى إلى زوال ملكه فارتبك في أمره فلم يعد يعلم ماذا يعمل وود لو أنهُ زوج هندًا لثعلبة إبقاء للحكم في عائلتهُ ولكنهُ كتمَّ ذلك كلهُ وتظاهر باستغراب ما سمعهُ.
أما هند فكانت تراعي والدها وتراقب حركاتهُ وتنتظر ما يبد منهُ وقد انقبضت نفسهُا وأسفت أسفا شديدًا لما فرط منها.
وفيما هم في ذلك سمعوا قرقعة اللجام وصهيل الخيل عند باب الحديقة فأطلوا وإذا بحماد وفارس آخر عرفوا أنهُ والدهُ فخرجوا لاستقبالهما فلما وقع نظر حماد على جبلة هم بتقبيل يدهُ فمنعهُ وتعانقا وتقدم عبد الله إلى جبلة فصافحهُ وتعارفا ودخلوا جميعًا إلى قاعة الجلوس وأخذوا في الأحاديث المتنوعة إلاَّ حديث النذر فأنهُ لم يدر بينهم أبدًا.
فقالت سعدى لجبلة قلت لنا في كتابك أن الإمبراطور هرقل أنفذ يدعوك إليه فما الذي دعاه إلى ذلك.
قال: «دعاه إليه اضطراب في جو السياسة أوجب اهتمامه في التأهب للحرب عاجلًا».
فبغت الجميع واستعاذ حماد بالله وخاف أن يحول ذلك بينه وبين هند إلى أجل بعيد فقال: «وما هو ذلك الاضطراب يا عماه».
قال: «لقد أنبأنا الجواسيس أن الحجازيين الذين جاؤنا منذ بضع سنين على ما تعلم وعادوا عن مؤتة خاسرين قد استفحل أمرهم واتسع سلطانهم وتوفي نبيهم وخلفهُ بعض أصحابهِ فجند جندًا كبيرًا أنفذه لقتالنا ولا يلبث أن يصل إلينا قريبًا فبعث إلي هرقل بذلك فأرسل يستقدمني إليه في حمص للمخابرة بشأن التجنيد وقد قيل لنا أن حملتهم هذه المرة ستكون أصعب مراسًا من الماضية وقد جاؤا فرقًا يقودهم أعاظم القواد».
فقال عبد الله: «سمعنا إنفاذ ذلك الجند إلى العراق لحرب الفرس وليس للشام».
قال: «ذلك جند آخر بعثوه إلى العراق في العام الغابر أما الآن فأنهم عاملون على التجنيد إلينا».
فقال حماد: «هل يرى سيدي العم أن غيبتهُ ستطول هناك».
قال: «لا أدري مقدار طولها ولكنني أظنها طويلة».
قال: «نسير إذا في خدمتك».
قال: «لا أرى حاجة إلى ذلك والأولى أن تبقيا في بصرى ريثما أعود أو أبعث إليكما. أما سعدى وهند وسائر أهل القصر فيسيرون معي خوفًا عليهم من غائلة العدو وهم في هذا الخلاء».
فلما سمعت هند ذلك خفق قلبها وكادت الدموع تتناثر من عينيها وقد أدركت بأن والدها يضمر السوء لحماد.
أما حماد فلم يكن أقل وجلًا وهو لا يعلم ما في نفس عمهِ وظنهُ لم يعلم بحقيقة نسبهِ ولا حدث ما يوجب نفوره ولكنهُ استعظم فراق هند بعد أن كاد يظفر بها على أثر ما قاساه من المشقة والبلاء في سبيلها.
أما عبد الله فأدرك أن في الأمر شيئًا جديدًا أوجب هذا التباعد ولولا ذلك لم يكن ثمة ما يمنع مسيرهم معهُ حيثما سار فخامره شك في كتمان حماد فنظر إليه بطرف خفي ففهم حماد مراده فانتبهِ أنهُ أخطأَ باطلاع هند على ذلك السرّ.
وشاركتهم في ذلك الإحساس سعدى لأنها أعلم الناس بأخلاق زوجها فقالت لهُ: «إلاَّ ترى أن نسير جميعًا معًا وما الفائدة من بقاء حماد هنا».
قال: «بل أرى بقاءهُ هنا وسأخبرك عما يمنع ذهابهِ معنا». قال ذلك وفي كلامهِ غنة الجفاء فسكتت وسكت الجميع.
ثم آن الغداء فتغدوا والسكوت سائد عليهم جميعًا فلما نهضوا أمر جبلة أن تعد الركائب لمسير زوجتهُ وابنتهُ معهُ في ذلك اليوم فشق ذلك على عبد الله ونفر من جبلة لما اتفق له معهُ في المقابلة الأولى. وعول على تحويل عزم حماد عن هند كأنهُ لم يدر بما في قلبهِ من لواعج الغرام وقد فاته أن الحب يتعاظم بنسبة ما يعترضهُ من العقبات.
فاستشار عبد الله حمادًا في الانصراف فأجابهِ إليه رغمًا عنهُ ووقفا فتقدم حماد إلى عمهُ وودعهُ وهو يكاد يشرق بدموعهُ وودعهُ عبد الله. وسار حماد إلى سعدى وهند يودعهما وكانتا قد خلتا وهند تبكي وتنتحب ووالدتها تخفف عنها وتلتمس الأعذار لما ظهر من جفاء والدها فلما سمعت وقع أقدام حماد خرجت هي فودعتهُ واعتذرت عن هند أنها تشكو من صداع ألم بها حتى أبكاها.
فأدرك حماد أنها شعرت مثل شعوره وترجح لديهِ أنها باحت بالسرّ ولم يلمّ إلاَّ نفسهِ لأنهُ لم يوصها بكتمانه. فقال والدمع يتلألأ في عينيهِ دعيني أرى هندًا قبل ذهابي وإن تكن باكية. وكانت هند قد استعدت للقائهُ فمسحت دموعها وحاولت إخفاء ما بها وخرجت إلى حماد وهي تتجلد ومدت يدها وتجلد هو أيضًا فودعهُا مبتسما وتحت ابتسامه غيظ يكاد يميزهُ ثم ودع سعدى وخرج فلقي عبد الله في الحديقة ينتظر قدومه فركبا وحماد يلتفت وراءه يودع القصر وأهله وهو غارق في لجج الهواجس فسارا مدة صامتين لا يفوه أحدهما بكلمة وكل منهما يفكر في أمر وحماد يراجع في ذهنه حوادث ذينك اليومين ويتحرق ندما لما باح بهِ من أمر نسبهِ وشعر بخطائه نحو عبد الله لأنهُ لم يطعهُ في كتمانهِ فظل صامتًا يتردد بين الخجل والفشل.
أما عبد الله فلم يبق عندهُ شك بتغير جبلة وفساد ما بنوه وضياع ما أملوه ولكنهُ لم يذكر ذلك لحماد رفقًا بعواطفهِ وعول على أن تثنيه عن عزمهِ فيما بعد.