حصون بصرى
ففيما هما ذات يوم في ضواحي بصرى يطلبون الصيد قال حماد: «أرى الصيد قليلًا في هذه النواحي لوعرتها وقلة المرعى فيها إلاَّ ترى أن نسير إلى البلقاء لعلنا نعثر على صيد كثير».
قال عبد الله: «إن الصيد يكثر أحيانًا ويقل أحيانًا أما إذا شئت الذهاب إلى البلقاء فالأمر إليك».
قال: «أرى في الانتقال خيرًا».
وفيما هما يتحادثان رأيا سربًا من الغزلان قادمًا من عرض البر لم يريا مثلهُ قبلًا فبغتا فقال حماد: «ما هذه الغزلان إني أراها تطلبنا وذلك لم يتفق لي منذ طلبت الصيد».
فقال عبد الله: «إن مثل هذه الكثرة تدل على أمر خطير».
قال: «وماذا عسى أن يكون ذلك».
قال: «لا يجتمع هذا العدد منها ويسير في وجهة واحدة إلاَّ فرارًا من جند قادم فلعل جندًا من العرب قادم إلى بصرى». قال ذلك وصعدا إلى ربوة أشرفا منها على سهول بعيدة فرأيا غبار يتصاعد عن بعد فقال عبد الله: «لقد صدق ظني».
فقال حماد: «أظنها جنود المسلمين قادمة لحصار بصرى فياليتنا خرجنا منها قبل الآن».
قال عبد الله: «إذا لم يكن لنا بد من ملجأ في هذه الديار خوفًا من المسلمين فإن بصرى أحسن المدن وأمنع الحصون واسمها يدل عليها فإن لفظها في الكلدانية معناه الحصن المنيع ألم تر سورها من الحجر الصلد الذي لا تقطعهُ المعاول ولا تهدمهُ المجانيق وقد رأيت أبوابها فإن منها يخرج اثنا عشر ألف فارس دفعة واحدة عند الاقتضاء فالمسلمون إذا فتحوا بصرى هان عليهم فتح سواها فتربصنا داخل أسوارها خير لنا من الخروج إلى البلقاء أو غيرها. وزد على ذلك أن أهل بصرى أشداء وهم أكثر الناس حرصًا على دينهم وأشدهم دفاعًا عن مدينتهم فإنها أعظم مراكز التجارة بين الشرق والغرب لتوسطها بين الحجاز والعراق والشام ومصر».
فبغت حماد وعظم عليهِ الأمر وعلم أن أمر هند لابد من تأجيلهُ إن طوعا وإن كرهًا وهب أنهُ عزم إلى البلقاء أو دمشق فإن جبلة وقبائل غسان وجنود الروم أصبحوا في شاغل يشغلهم عن كل شيء ولكنهُ أراد أن يتحقق قوة جند الروم ليرى قدرتهم على الدفاع. فقال وهو يدير رأس جواده نحو بصرى وعبد الله يتبعهُ: «وما هي قوات الروم في الشام وكم مدينة مثل بصرى عندهم».
قال عبد الله: «اعلم يا سيدي أن ولاية سوريا أو هي ولاية الشام تقسم إلى ١٥ قسمًا أحدهما بصرى وقوات الروم كبيرة وعدتهم كثيرة ولكنهم شغلوا عن دينهم بدنياهم واستولى عليهم الانقسام. وما زالوا في هذا الحديث حتى وصلوا المدينة فرأوا أهلها في هرج والجند في حركة يستعدون للدفاع فدخلوا الأسواق فرأوا الناس مجتمعين مثنى وثلاث ورباع يتساءلون عن الجند القادم وأمارات الاستخفاف ظاهرة على وجوههم».
فقال عبد الله: «هلم بنا إلى منزلنا فأنهُ عال يشرف على الأسوار وما وراءها».
فسارا وقال حماد: «ما قولك برومانوس حاكم بصرى هل هو خائف أم مستخف».
فقال عبد الله: «لا أظنهُ خائفًا وعنده مثل هذه الحصون وهذه القلاع فضلًا عن العدة والرجال ولكنني أظن الولاية ستخرج من يده إلى وال آخر جاء منذ أيام اسمهُ تراجان (ديرجان) وهو بطل محنك وقد سمعت الناس يتحدثون بنفور بينهما وليس هذا وقت التنافر».