رومانوس وتراجان
ومازالا بالحديث حتى وصلا المنزل فأطلا من بعض نوافذه فإذا بالغبار قد بان عن جند كثيف تتقدمه الأعلام والفرسان.
ولم يكد يظهر جند العرب حتى تسابق الناس إلى الأسوار ينظرون إليهم وهم يهزأون بهم وبألبستهم وسذاجة معداتهم وبعد قليل جاء رومانوس فوقف في بعض الأبراج ونظر إلى جند العرب وقال لمن حولهُ من الضباط: «لا نرى أن نقفل أبواب بصرى أمام هذا الجند الضعيف ولكننا نخرج إليهم فنحاربهم في هذا السهل ونردهم على أعقابهم». وأمر الجند أن يعسكروا خارج الأسوار مقابل معسكر العرب.
فلما رأى عبد الله هذا التهور خاف العاقبة لما يعلمهُ من بطش العرب وصبرهم على القتال وكانت لهُ على رومانوس دالة كما تقدم فلما علم بعزمهِ على الخروج بالجند حدثتهُ نفسهُ أن ينصح لهُ أن لا يفعل فسار إليه وحماد معهُ وقد علم أنهُ توجه إلى دار حكومتهُ فلما وصل الدار رآها غاصة بالجماهير من رجال الحكومة وكلهم راضون عن رأي رومانوس ولكنهُ لم ير تراجان بينهم فلما رأى إجماعهم على ذلك علم أنهم لن يصغوا إلى كلامهُ فرأى أن يخاطب تراجان بالأمر فسأل عنه فقيل لهُ أنهُ في منزلهُ فسار إليه وكان قد عرفهُ واجتمع بهِ مرارا فاستأذن بالدخول عليهِ فأذن لهما فدخلا فإذا بتراجان مقطب الوجه فلما دخل عبد الله رحب بهِ تراجان وكان يعرف العربية فجلس وجلس حماد إلى جانبهِ.
فقال تراجان: «هل تعرفون هؤلاء الحجازيين؟»
قال عبد الله: «لقد عرفناهم وحضرنا حروبهِم غير مرة».
فقال: «وكيف رأيتموهم؟»
قال: «رأيناهم أشداء صبورين لا يعبئون بالعدة ولا بالكثرة».
قال: «إلاَّ ترون الخروج إليهم خطأ».
قال عبد الله: «بلى يا مولاي وهذا ما جئنا بهِ إليك فكيف تخرجون إليهم فتعرضون جندكم لنبالهم وسيوفهم وقد كان لكم غنى عن ذلك بهِذه الحصون المنيعة».
فتنهد تراجان وقال: «هكذا أراد رومانوس ولقد نصحت لهُ فلم ينتصح وكأني بهِ يلقي بجند الروم إلى التهلكة».
فقال عبد الله: «أليس من سبيل إلى إقناعه؟»
قال: «كلا لأنهُ عنيد معتد بنفسهُ وسيكون فشلهُ عظيمًا وإذا فشل فإنما يكون دمه على رأسه» قال ذلك وهو يلاعب صليبًا من الذهب معلقًا بسلسلة في عنقهِ.
فآنس عبد الله في كلام تراجان لهجة الشماتة فسكت وودعه وخرج وحماد معهُ فلما خرجا قال حماد: «ما ترى من أمر هؤلاء إني أخاف أن تعود العائدة على هذه المدينة فيصيبنا مما يصيب أهلها».
قال: «وما العمل يا سيدي أنخرج إلى المسلمين».
قال حماد: «كلا إن خروجنا خيانة».
قال: «أرى أن نتربص لنرى ما يكون من حربهِم».
وسارا حتى أتيا المنزل وكان الليل قد سدل نقابهِ فأطلا على معسكر العرب فإذا بهم قد نصبوا الخيام وأوقدوا الوقود ونصبوا الأعلام.
فقال حماد: «ومن هو يا ترى أمير هذه الحملة ألعلهُ خالد بن الوليد».
قال: «إن خالدًا في العراق على ما علمت ولكن الأمراء غيره كثيرون».