فتح بصرى
وباتوا تلك الليلة والجند يستعد للخروج وفي الصباح أفاقوا على دق الأجراس وإذا بالجند خارج وفيهِم اثنا عشر ألف فارس والقسس أمامهُم بالصلبان والمباخر فسار عبد الله وحماد إلى الأسواق فرأوا الناس يسرعون إلى الكنائس يقيمون الصلاة باليونانية ويدعون لجندهم بالنصر وصعد الكهنة على الأسوار بالصلبان والشموع ورشوا الجند بمياه المعمودية وأخذوا يرنمون وينشدون الأناشيد المسيحية وفيهِم الرجال والنساء والأولاد يدعون بصوت واحد بالنصر لجند الروم.
أما جند العرب فكان قائده شرحبيل بن حسنة كاتب وحي النبي وجههُ عبيدة بن الجراح في أربعة آلاف فارس لفتح بصرى وكان عبيده قائدًا عاما لجنود المسلمين في الشام ولاه القيادة العامة الخليفة أبو بكر الصديق.
فوقعت بين الجيشين عدة وقائع ظهر فيها الرومانيون في بادئ الرأي ولم يعجب عبد الله لنصرة الروم لما يعلمهُ من كثرة عددهم.
ففي ذات يوم التحم الجيشان فظهر الرومانيون واختل أمر المسلمين حتى كادوا يعمدون إلى الفرار وعبد الله يراقب حركاتهم وحماد إلى جانبهِ وإذا بغبار يتصاعد من جهة الأفق وبان من تحته جند عرفوا من نوع نظامه وشكل أعلامه أنهُ جند المسلمين فعلموا أنها نجدة جاءتهم ولم يلبثوا أن رأوا في مقدمة ذلك الجند رجل ضخم عريض اللحية طويل القامة تخفق فوق رأسه راية سوداء وهو خالد بن الوليد فاشتد أزر المسلمين وأعادوا الكرة فتقهقر الروم حتى دخلوا الأسوار وأقفلوا أبواب المدينة فلقي تراجان رومانوس راجعا فذكره بنصيحتهُ فغضب رومانوس لشماتتهُ بهِ.
فلما علم عبد الله بما تمكن من النفور بين القائدين خاف سوء العاقبة.
وفي صباح اليوم التالي برز خالد يطلب النزال فنزل إليه رومانوس والناس ينظرون إليهما وما يؤول إليه نزالهما وبعد براز طويل عاد كل منهما إلى معسكره فدخل رومانوس بصرى وعلى وجهه ما يدل على تغير في مقاصده وقد فترت همتهُ عن الدفاع فلحظ ذلك فيهِ الذين يعرفون أخلاقهُ وأما عبد الله فاجتمع بحماد وقال: «إني خائف من هذا الرومي فوالله لا يلبث أن يسلم المدينة لأني رأيت من مطاولتهُ في النزال ما يوقع الشبهة فيهِ».
فقال حماد: «ولقد سمعت من بعض أصدقاء تراجان اليوم أنهُ جادل رومانوس ووبخهُ وشمت بهِ لما آل إليه خروجهُ فشق ذلك على رومانوس وتوعده بشر ينويه لهُ» وقال لهُ: «إذا كنت أفرس مني نازلهم» فأجابهُ تراجان وشتمه وعلا الخصام بينهما وتحزب رجال الروم بعضهم لرومانوس وبعضهم لتراجان وتوعدوا رومانوس بالقتل واتهموه بالخيانة وقالوا لهُ لا نرضاك حاكما علينا وقد ولينا تراجان فسكت ولم يجبهِم وعلامات الغدر ظاهرة على وجههِ ولكنهُ قال: «فلينزل هو ونرى بطشهُ».
فلما أصبحوا نزل تراجان على جواده بعدته وسلاحه وطلب المبارزة فخرج إليه فارس علما من لباسه وكبير جثته أنهُ خالد بن الوليد فطال النزال بينهما والجيشان ينظران وكأن على رؤوسهم الطير فمضى معظم النهار ولم ينل أحدهما الآخر بشر فرجع كل منهما إلى معسكره.
فلما رجع تراجان إلى المدينة أسرع الناس للقائه وسؤالهُ عما لقي من عدوه وكان أول من لاقاه رومانوس وقد نظر إليه مستهزئًا ضاحكًا كأنهُ ينتقم منهُ لشماتته بهِ قبلًا فانتهرهُ وعيرهُ بأنهُ مخلوع فقال رومانوس: «سترى من هو المخلوع منا وتركهُ ومضى».
وكان عبد الله وحماد ينظران إلى ما دار بينهما فلما رأيا من رومانوس ما رأياه وسمعا تهديده خافا فقال عبد الله: «لقد زاد خوفي الآن من مقاصد هذا الرومي فلا أظنه إلاَّ فاعلًا شرًا».
فقال حماد: «وما شأننا في ذلك».
قال عبد الله: «إنما يعنينا من الأمر المحافظة على حياتنا مخافة أن يدخل العرب المدينة فيصيبنا منهم سوء ولا ناقة لنا في الدفاع ولا جمل إلاَّ تظننا كنا آمن على حياتنا لو أقمنا في دير بحيرا».
قال حماد: «وكيف نكون آمن هناك والدير لا حصن فيهِ ولا جند ونحن الآن في أمنع مدن الشام».
قال: «لم أقل أن الدير أحصن من بصرى ولكنني علمت أن خليفة هؤلاء المسلمين لما خرج لوداعهم يوم تسييرهم إلى الشام أوصاهم بالرهبان والديور خيرًا فهم لا يسيئون راهبًا ولا يخربون ديرًا».
فقال حماد: «لو ذكرت ذلك لفضلت البقاء في الدير ولكن السهم قد نفد ونحن الآن في بصرى وهي في ما تراه من الحصار فما الرأي».
ففكر عبد الله قليلًا ثم قال: «إن سر المسألة يا سيدي عند رومانوس هذا فلو استطعنا استطلاع شيء منهُ لعلمنا طريق النجاة فأرى أن أسير إليه الليلة لعلي أتنسم خبرًا».
قال: «حسنًا تفعل».
وقضيا بقية يومهما في المنزل وبعد العشاء سار عبد الله إلى دار رومانوس وبقي حماد وحده ولم يمض إلاَّ القليل حتى عاد عبد الله وعلى وجههِ ملامح البغتة.
فقال حماد: «ما وراؤك؟»
قال: «لا أظن الأمر إلاَّ عظيمًا فإني سألت عن رومانوس في منزلهِ فقيل لي أنهُ نائم فلم أصدق أنهُ ينام الآن فخرجت استطلع خبره من بعض الحرس فعلمت أنهُ خرج إلى حيث لا يعلم أحد ويخال لي أنهُ سار ليدبر مكيدة ويسلم بها المدينة و …».
فقطع حماد عليهِ الكلام قائلًا: «أجل أظنه سيفعل ذلك لأن هذا القصد كان ظاهرًا على وجههِ فما الحيلة».
قال: «لا حيلة لنا يا سيدي إلاَّ التربص إلى الصباح فإذا تحققنا عزمهُ على ذلك دبرنا حيلة ننجو بها بأنفسنا».
وباتا تلك الليلة على مثل الجمر.
وفيما هما نائمان بعد نصف الليل سمعا طارقًا يطرق الباب فهبَّا من رقادهما مذعورين فسألا من الطارق فسمعا صوتًا يقول: «افتحا إني أنا خادمكما سلمان».
فهرول عبد الله للحال ففتح الباب والبيت مظلم فإذا برجل عليهِ لباس أهل الحجاز وفي يده مصباح فبغتا لمنظره ولكنهُ ناداهما إني عبدكما سلمان لا تخافا ورفع العمامة عن رأسه فبان وعرفاه فصاح بهِ حماد: «أين كنت يا سلمان وما الخبر».
قال: «جئت من معسكر خالد ولا يلبث هو ورجالهُ أن يستولوا على الأسوار فجئت لأعلمكم بالأمر لتكونوا على بصيرة وهذا علم من أعلام المسلمين أنصبوه على باب منزلكم لتأمنوا من سيوفهم إذا دخلوا المدينة».
فقال عبد الله: «بورك فيك أيها الصديق الأمين» فدخلوا جميعًا وأوصدوا الباب وسألهُ حماد أن يقص عليهِم الخبر فجلس وهو يلهث من التعب والبغتة وقال: «أخبركما بالاختصار إن رومانوس صاحب بصرى خرج إلى معسكرنا في هذا المساء من مكان في السور خرقهُ غلمانه فاعتنق الإسلام وقال لخالد بن الوليد: «أرسل معي من تعتمد بتسليم المدينة» فأرسل معهُ عبد الرحمن بن أبى بكر ومئة من المسلمين فجئت أنا معهم فأدخلنا من خرق في السور وأخذ الأمير عبد الرحمن ورجالهُ إلى قصره ليسلحهم ويسير بهم لقتل تراجان وقال: «أنهُ مناظر لهُ في الحكم» وكنت لما جئت مع جيش خالد كما سأخبركم سألت الراهب الشيخ عنكما فأخبرني إنكما مقيمان في بصرى ودلني على هذا المنزل فهرولت إليه لأعلمكما بجلية الخبر وأتيت بهِذا العلم أنصبه فوق الباب حماية لكما وبعد قليل تسمعان تكبير المسلمين على أسوار المدينة من كل جهاتها وهي علامة بينهم وبين الجند خارجًا فيهجم الجميع وتكون مذبحة هائلة».
فأثنيا على همته فترامى هو على يد حماد فقبلها وقال: «لقد وددت لو تكونون معي في معسكر هؤلاء الحجازيين لتروا ما رأينا من شجاعتهم وصبرهم واتحاد كلمتهم واعلموا أن خالدًا وجنده لو لم يصلوا بصرى الآن لذهب جند شرحبيل أيدى سبا وارتدوا عن المدينة خاسرين فقد كانوا في شدة وضنك لقتلهم وكثرة الروم».
فقال عبد الله: «وهل خالد وحده من القواد العظام».
قال سلمان: «وفيهم أيضًا عبد الرحمن بن خليفتهم أبى بكر وهو الذي جاء معنا لاستلام المدينة وغيره جماعة كبيرة من الأمراء والقواد».
ولقد رأيت من حربهِم وبطشهم في العراق ما سأقصهُ عليكما إن شاء الله.
فهم حماد أن يسألهُ عما فعلهُ خالد في العراق فسمعوا الضوضاء والضجيج وبين الأصوات صوت التكبير.
فقال سلمان: «إن المسلمين الآن على الأسوار وعما قليل يفتح أولاد رومانوس أبواب المدينة فيدخلها المسلمون فالبثا هنا لنرى ماذا يكون فما لبثوا أن سمعوا ضجيج الناس وبكاء النساء والأطفال فتحركت الشفقة في قلوبهِم وثارت الحمية في رؤوسهم ولكنهم لا يستطيعون الخروج خوفا على حياتهم فما طلع النهار إلاَّ وقد فتح المسلمون بصرى واعملوا بها السيف ثم سكنت الغوغاء بعد قتل تراجان وتسليم أهل بصرى».
ففتح سلمان الباب وخرجوا إلى شرفة من شرفات المنزل تطل على الشارع فرأوا جثث بعض القتلى هناك بين ميت ومنازع وقد تلطخت الأثواب بالدماء والمسلمون قد توغلوا في المدينة وامتلكوها ولكنهم لم يقربوا منزل عبد الله لوجود العلم على بابهِ.
وفيما هم في الغرفة ينتظرون ما تنتهي إليه حال بصرى وقد اطمأن بالهم سأل سلمان حمادًا عما تم من أمر هند فأخبره بجلية الخبر وكيف شغلتهم الحرب عن الاقتران وعبد الله يسمع ويتجاهل حتى انتهى إلى عودهم من صرح الغدير بخفي حنين وحاول حماد إذ ذاك أن يبين لسلمان أن عمه جبلة أصاب بذلك وأنهُ لا يزال على حبهِ واعتباره وعبد الله لا يجيب ولا يعترض.
أما سلمان فتكدر لهذا التغيير وقال: «وما هو موعد الاقتران يا مولاي».
قال حماد: «لما تنتهي الحرب ويرجع جبلة وأهلهُ إلى البلقاء».
قال: «ومن يعلم متى يكون ذلك».
قال: «الله يعلم».
قال: «أتعلم أين هم الآن؟»
قال: «أظنهم في البلقاء».
قال سلمان: «لا أظنهم هناك فقد أنبأنا جواسيس العرب أن جبلة سار برجالهُ إلى اليرموك لنصرة جند الروم في حرب المسلمين ولا يلبث جند خالد بعد قليل أن يذهب إلى هناك لنصرة المسلمين فإذا كان جبلة في اليرموك لا أظنه يترك أهل منزلهُ في البلقاء وهي عرضة لغزوات العرب».
فقال سلمان: «وما ظنك بهِ إذًا».
قال: «أظنه يرسلهم إلى دمشق ومع ذلك فإني أرى أن أسير مع خالد حتى آتي اليرموك وأبحث عن جبلة وأهلهُ وأعود إليكم بالخبر أو لعلي أعود إليك برسالة من هند» قال ذلك وتبسم كأنهُ يريد أن يعبث بحماد فأجابهِ حماد بمثل ابتسامهُ وهو ينظر إلى ما يبدو من عبد الله فإذا بهِ في شاغل عنهم ينظر من نافذة الغرفة إلى الشارع والاهتمام ظاهر على وجهه وسمعا قرقعة اللجم وضوضاء الناس فالتفتا إلى ما هو ناظر إليه فأول ما وقع نظرهما على راية سوداء تحتها جند من العرب في وسطهم بعض الفرسان وفي مقدمتهم فارس كبير الجثة عريض اللحية طويل القامة بعيد ما بين المنكبين واسع الهيكل كبير العمامة واسع العينين كثيف الحاجبين على وجهه أثر الجدري وقد ركب على جواد أشهب خفيف العضل يتنقل بمشيته كالعروس ويكاد الشرر يتطاير من حدقتيه ووراءه فرسان حولهم الأعلام وهم فرحون بما اوتوه من النصر فالتفت سلمان إلى عبد الله قائلًا: «أعرفت من هو هذا الفارس يا سيدي».
قال عبد الله: «قد عرفتهُ من يوم كان في وقعة مؤتة وكنت أنا أسيرًا عندهم أليس هو خالد بن الوليد».
قال: «بلى هو هو بعينه انظر إلى هذه القامة وتلك الطلعة إن خالدًا يا مولاي من معجزات خلق الله لم أر ولم أسمع بمثل شجاعتهِ وشدة بطشهِ فلا غرو إذا سموه سيف الله لقد رأيت منهُ أعمالًا تعجز عن فعلها الأبطال في حروبهِ بالعراق وسمعت من أخباره ما تشيب لهولهِ الأطفال فقد كان قبل إسلامهِ هو المقدم على خيل قريش في الجاهلية فأسلم في السنة الثامنة للهجرة مع عمرو بن العاص ولم يزل منذ أسلم يوليه الرسول أعنة الخيل في مقدمتها وقد علمت أن في عمامته خصلة من شعر النبيّ يتبرك بها. وقد شهد وقعة مؤتة بالبلقاء وعلى أثر ما أظهره من البسالة هناك سماه الرسول سيف الله ثم كان عونًا عظيمًا للمسلمين في كل حروبهِم حتى تولى أبو بكر فأنفذه إلى فتح العراق كما علمتم».
قال عبد الله: «وما هذه الراية السوداء».
قال سلمان: «هذه راية ذات شأن عظيم عندهم ويقال لها راية العقاب».
قال حماد: «لم تخبرنا بما فعلهُ المسلمون في العراق هل فتحوا المدائن ودوخوا الفرس».
قال سلمان: «لو بقوا هناك لفعلوا ذلك ولكن خليفتهم استقدمهم لنجدة جند الشام ولولا قدوم خالد على بصرى لما استطاع شرحبيل فتحها فقد وصلنا إليهم وهم في شدة وجهد وضيق».