فتح الحيرة
فقال حماد: «أخبرنا يا سلمان عما فتحهُ خالد من العراق وكيف رأيت حال الفرس».
قال: «أما خالد فأنهُ من أعظم القواد وخيرتهم وقد لقيته في الحيرة يوم فتحها وكان قبل ذلك قد استولى على بلاد كثيرة بلا حرب لأن العراقيين قد ملوا من حكومة الفرس وظلمهم وعتوهم واحتقروهم لاختلال أمورهم. فأول مكان وصل إليه خالد بلاد بانقيا وباروسما والليس فصالحهُ أهلها على عشرة آلاف دينار سوى خرزة كسرى وهي فريضة كان يقتضيها الفرس عن كل رأس أربعة دراهم. ثم ساروا إلى الحيرة وعليها إياس ابن قبيصة كما تعلمون (قال ذلك وتنهد) فأنهُ تولاها بعد ما قضى الله من أمر مولانا رحمهُ الله» (فتنهد حماد وعبد الله وهما صامتان يسمعان حديث الحيرة) فقال سلمان: «لم يكد يصل خالد الحيرة حتى خرج إليه إياس وسائر أشراف حكومته كأنهم كانوا منهُ على موعد فاستقبلهم كما يستقبل الغالب المغلوب ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختاروا البقاء على النصرانية ودفع الجزية فبلغت جزيتهم تسعين ألف درهم وقد أخبرني بعض رجال خالد ممن يقرأون لهُ القرآن أنها أول جزية أخذها المسلمون من الفرس. ثم تحوَّلوا عن الحيرة وحاربوا الفرس في عدة مواضع وفازوا في أكثرها وما فازوا فيهِ وقعة الثني ووقعة الولجة ووقعة الليس كل ذلك قبل وصولي.
أما أنا فلما ودعتكم سافرت إلى الحيرة فوصلتها والناس يتحدثون بما تم من صلحها وأهلها بين راض بالصلح وناقم على إياس وخصوصًا الفرس منهم فقد سمعتهم يتذمرون وكاتبوا بذلك كسرى برويز وكان يتولى عرش الأكاسرة إذ ذاك وشكوا ما كان من ضعف ابن قبيصة فأنفذ جندا بقيادة رجل من مرازبتهُ اسمهُ الازادبة لمحاربة العرب فوصل الجند وأنا في الحيرة وكان خالد قد برحها إلى بلاد أخرى يلتمس الفتح ثم سمع الازاذبة بقدومهُ فخرج إليه وعسكر عند الغربيين وخرجت أنا معهم وعلم أن خالدًا ورجالهُ قادمون بالسفن بالفرات وأرسل ابنهِ ليقطع الماء عنهم فوقفت السفن على اليبس فتركها خالد وخرج برجالهِ على الخيل حتى قتل ابن الازاذبة وتقدم خالد نحو الحيرة.
ومن غريب الأتفاق أننا بينما نحن في الغربيين وصل ساعي البريد من المدائن يحمل كتابًا إلى المرزبان فلم يكد يفتحهُ ويقرأ ما بهِ إلاَّ وقد تغير لونهُ واستولى عليهِ الجزع فخاف كل من رآه ولم نعلم ما دعاه إلى ذلك إلاَّ في اليوم التالي إذ شاع في المعسكر إن كسرى برويز قد مات فوقع الاضطراب في الجند وانشغل الازاذبة واضطرب ثم جاءه الخبر بمقتل ابنهُ وتقدم العرب نحوه فتقهقر نحو الحيرة وعسكر العرب عند الغربيين.
أما أنا فلما رأيت اختلال أحوال الفرس قلت في نفسي لقد آن الوقت الذي فيهِ أستطيع القيام بالمهمة التي جئت لأجلها فخرجت من الحيرة في ليلة ليلاء حتى أتيت معسكر العرب فالتمست الأمان وإن أرى الأمير خالدًا فأخذوني إليه فطلبت الخلوة بهِ فخلونا فقلت اعلم أيها الأمير أن حال الفرس في اختلال لموت ملكهم وانقسامهم فيما بينهم فقد صالحك ابن قبيصة وهو على صلحك مع سائر العرب وأما الفرس فهم في شاغل عن الحرب بارتباك داخليتهم وأطلعتهُ على خفايا كنت عالمًا بها فسر بي كثيرًا وأثنى علي فقلت في نفسي هذه فرصة أغتنمها لحفظ ما لمولاي هناك من الأموال والعقار وكنت قد تفقدت المزارع فرأيت الجميع في انتظار عود الأمير عبد الله فطيبت خاطرهم وقلت لهم إني إنما أتيت الحيرة لتفقد حالهم وأوصيتهم بالعناية في استغلال الأرض فلما آنست من خالد ارتياحًا إلى خدمتي التمست منهُ حماية تلك المزارع فوعدني. وقبل هجومهم على الحيرة أخذت علما مثل الذي نصبتهُ على هذا البيت ونصبتهُ هناك وبعد قليل هجم المسلمون على المدينة ففتحوها فظللت في معية خالد حيثما ذهب.
ويسرني أن أخبركم بأن سقوط الحيرة كاد يقضي على دولة الفرس كلها لأن الدهاقين وهم ولاة الفرس كانوا ينتظرون ما يكون من حرب الحيرة فلما علموا بسقوطها وهنت عزائمهم فجاءوا وصالحوه وسلموا إليه فأخذ الجزية منهم وكتب إلى أهل فارس يدعوهم إلى الإسلام ويهددهم بالقتال فلم يكن يمر يوم لا نرى الناس قادمين زرافات ووحدانا وخصوصًا عرب العراق وهم النصارى وبعد قليل سار خالد وأنا معهُ ففتح الانبار ثم عين التمر وغيرهما وقد لحظت منهُ أنهُ لم يتجرأ على المسير إلى المدائن قبل الاستعداد الكافي.
وفيما هو في ذلك ورد عليهِ كتاب من الخليفة أبي بكر يأمره بالذهاب إلى الشام لنصرة جند العرب على فتحها فجئت أنا معهُ حتى أتينا بصرى وهي محاصرة وأنا لا أعلم مقركما فخطر لي أن أسأل راهبنا الشيخ فأخبرني بمقامكما هنا فتربصت حتى تم الفتح كما قدمت».
وكان عبد الله وحماد صامتين يصغيان لما يقصه عليهما سلمان فلما انتهى إلى هناك قال حماد: «وما ظنك بتتمة فتح العراق فان خالدًا لم يفتح منها شيئًا كثيرًا والمدائن لا تزال على ما هي والفرس لا يزالون حاكمين».
قال: «رويدك يا سيدي إن العرب لا يلبثون أن يعيدوا الكرة وأظنها تكون القاضية وخالد لم يأت بصرى إلاَّ مددا لجند الشام فطب نفسًا إن الله سيتم انتقامه من أولئك الطغاة».
فقال عبد الله: «وما العمل الآن».
قال سلمان: «أرى يا سيدي أن أبقى أنا مع خالد كما كنت فأسير معهُ إلى اليرموك فقد سمعت أن العرب معسكرون هناك يتوقعون قتالا شديدًا وسيسير خالد لنجدتهم».
فقال حماد: «وأين اليرموك؟»
قال: «هي على مقربة منا غربًا على نهر يقال لهُ نهر اليرموك يصب في نهر الأردن وقد عسكر العرب عند مائهُ».
فتنهد حماد وفي نفسهُ شيء يكتمه.
فأدرك سلمان أنهُ يفكر بهِند وجبلة فقال: «ولا بد من أن يكون جبلة مع جند الروم إذا جاء اليرموك فلا أعدم وسيلة استطلع بها مقر هند فأبعث إليكم بخبرها».
فقال حماد: «إلاَّ ترى أن نسير جميعًا مع خالد».
قال سلمان: «لا أرى حاجة إلى ذلك بعد أن أوعز إليك جبلة بالإقامة هنا ريثما يبعث إليكم فلعلهُ أن يفعل ذلك وأنتم بعيدون عنها فتفوت الفرصة وأما إذا سرت أنا وبقيتما أنتما هنا فنكون قد أمسكنا الحبل من الطرفين».
أما عبد الله فظل صامتا وحماد ينظر إليه فأدرك أنهُ غير راض عن كلام حماد.
فقال: «ما رأيك يا والداه».
فقال عبد الله: «الرأي رأيك يا سيدي ولكنني أرى جبلة وأهل منزلهُ لا يهمهم شيء من أمرنا أقمنا في بصرى أم رحلنا عنها يدلك على ذلك سكوتهم عنا وقد أصاب بصرى ما أصابها من الحرب ولولا ذلك لبعثوا يفتقدوننا».
فقال حماد: «ولا نظنهم علموا بما آلت إليه حالتنا وهب أنهم علموا فكيف يستطيعون الوصول إلينا والمدينة محاطة بالعدو». فلما رأى حمادًا يدافع عن جبلة قال: «لعل لهم عذرًا» وسكت.
ثم خرج سلمان إلى معسكر خالد ليرى ما تم عليهِ الأمر فرأى العرب قد ولوا رومانوس بصرى وأخذوا يستعدون للمسير فعاد فأخبر عبد الله وحمادًا بذلك وهم بوداعهما فقال لهُ حماد: «لا أرى أن أوصيك بإنفاذ خبر جبلة إلينا على عجل واطلاعنا على ما تم لأهل بيته وأين هم».
قال: «سمعًا وطاعة وسيأتيك الخبر سريعًا» ثم ودعهما وخرج.
ولم يكن سلمان أقل من حماد قلقًا على هند وقد شارك عبد الله في ارتيابهِ من جبلة فعوَّل على استطلاع كنه الأمر وإنفاذ ذلك إلى سيده وفي اليوم التالي أقلع خالد وشرحبيل وجنداهما إلى اليرموك.