وقعة اليرموك
ولما تكامل جمع المسلمين في اليرموك بلغ عددهم ٢٦ ألفا منهم تسعة آلاف بقيادة خالد فيهم ألف من الصحابة من جملتهم مئة ممن شهدوا وقعة بدر الكبرى ومن قوادهم أبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص وشرحبيل وأبو سفيان بن حرب وكانت الحرب بينهم وبين الروم قبل قدوم خالد تساندًا أي كل أمير على أصحابهِ لا يجمعهم أحد.
وكان أبو بكر قد ولىَّ خالدًا القيادة العامة على جند الشام كافة والناس يحسبون أبا عبيدة الجراح أولى منهُ بتلك القيادة فوقع بين المسلمين اختلاف من هذا القبيل فلمَّا جاءهم خالد حاول جمع كلمتهم وقد أدرك ما في نفوس بعضهم فوقف في الجماهير وقد اجتمع الأمراء حولهُ وقال: «إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغى فيهِ الفخر ولا البغي أخلصوا جهادكم وارضوا الله بعملكم فإن هذا يوم لهُ ما بعده ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبئة وانتم متساندون فإن ذلك لا يحل ولا ينبغى وإن من ورائكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا فاعلموا فيما تؤمروا بهِ بالذى ترون أنهُ رأى من واليكم ومحبته». قالوا: «هات فما الرأي». قال: «إن أبا بكر لم يبعثنا إلاَّ وهو يرى أنا سنتياسر ولو علم بالذى كان ويكون لما جمعكم إن الذي أنتم فيهِ أشد على المسلمين مما قد غشيهم وانفع للمشركين من إمدادهم ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم فالله الله فقد أفرد كل رجل منكم ببلد لا ينتقصهُ منهُ إن دان من الأمراء ولا يزيده عليهِ أن دانوا لهُ. إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله ﷺ هلموا فان هؤلاء قد تهيئوا وإن هذا يوم لهُ ما بعده إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم وان هزمونا لم نفلح بعدها فهلموا فلنتعاور الإمارة فليكن بعضنا اليوم والآخر غدًا والآخر بعد غد حتى تتآمروا كلكم ودعوني أتآمر اليوم». فأمروه وهم يرون أنها كخرجاتهم وان الأمر لا يطول.
فعجب سلمان لجسارة خالد وحزمهِ ولكنهُ أخذ منذ وصولهُ يحاول الخروج إلى معسكر الروم ليرى جبلة أو يسمع خبرًا عن هند فصعد إلى ربوة على ضفة ذلك النهر ونظر إلى معسكر الروم فرآه قد ملا الفضاء وفيهِ الرايات والصلبان فأمعن نظره فيهِ فرأى معسكر الغسانيين منفصلًا إلى جانب وشاهد راية جبلة وفسطاطهُ في وسطهُ فحدثتهُ نفسهُ أن يسير إليه ولكنهُ خاف أن يستغشه المسلمون إذا رأوه فيوقعوا بهِ شرا فرأى أن يذهب إليهم بحيلة الجاسوسية فعوَّل على أن يخاطب خالد في ذلك فسار إلى فسطاطهُ فرأى الأمراء تتزاحم فيهِ وقد اجتمعوا للمفاوضة في أمر الحرب فهاب الدخول مخافة أن يسمع انتهارًا فصبر حتى أرفض الجمع وبقي خالد وحده فالتمس الدخول عليهِ فأذن لهُ فدخل وقبل يده فقال خالد: «ما خبرك». قال: «هل يأذن لي مولاي بكلمة لعل فيها نفعًا».
قال: «قل».
قال: «هل بعثتم من يستطلع أخبار العدو يسير قواتهم ومواقعهم وعدد جندهم».
قال: «لقد فعلنا ولكنني أرى أنك أجدرهم بذلك».
قال: «إني عبد مطيع فإذا رأيت أن أسير في الأمر فعلت».
قال: «سر وافعل».
فقبل يده وخرج فتزيا بزي الغسانيين وسار حتى اختلط بالغسانية فالتقى بأناس عرفهم في البلقاء فظنوه كان معهم من ذي قبل فأستطلعهم خبر هند فعلم أنها مع والدتها في دمشق ثم استخبر عن قوات الروم فعلم أنهم في كثرة وفيهم عشرون راية بعضها لأهل الدولة وبعضها للنجدات من الأرمن والسريان والمصريين وإن جملة الجند ٢٤٠ ألفا ما عدا العرب المتنصرة من الغساسنة وغيرهم فوقعت في نفسهُ من ذلك رهبة وخاف انتصار الروم وتردد في الرجوع إلى خالد ولكنهُ قال في نفسهُ اذهب الآن إلى المسلمين فإذا رأيت فيهم تضعضعًا فررت إلى الغساسنة.
فلما سدل الليل نقابهِ عاد إلى معسكر المسلمين وأطلع خالد على حال الروم.
فقال خالد: «لا يهمنا أمر كثرتهم فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله».
فقال سلمان: «ليست القوة في الكثرة يا مولاي ولكنها في الاتحاد فقد علمت أن هؤلاء الجند منقسمون فيما بينهم لاختلاف أغراضهم ومشاربهِم». ثم ودعه وخرج وهو يفكر في طريقة يوصل بها خبر هند إلى حماد.
فلما أصبح الصباح سمع التكبير والأذان في معسكر المسلمين وقد قام الناس وقعدوا وأخذوا يتأهبون للقتال فوقف ينظر إلى كيفية نظامهم فرأى خالدًا قد وقف في وسط الأمراء وأمر أن تنظم الجيوش كراديس فقسم الجند ٢٦ كردوسًا وجعل قلب الجند كراديس وأقام فيهِ أبا عبيدة وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وشرحبيل ابن حسنة وجعل الميسرة كراديس وعليها يزيد بن أبي سفيان وجعل على كل كردوس رجلا من الشجعان. وفيما خالد يعبئ الجند على هذه الصورة سمع بعضهم يقول ما أكثر الروم وأقل المسلمين فقال خالد: «بل قل ما أقل الروم وأكثر المسلمين إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان فو الله لوددت أن الأشقر (يعنى فرسه) براء من توجيهُ وأنهم أضعفوا في العدد» وكان الأشقر قد حفي في مسيره. ثم أمر أن يبدأوا القتال فحاذر سلمان أن تصيبهِ نبلة فتنحى وهو خائف أن تعود العائدة على المسلمين لقتلهم وكثرة الروم فوقف في منعطف يؤدي إلى جند الغساسنة فرأى على مقربة منهُ رجالًا من جند المسلمين وقوفًا فتأملهم فرأى بينهم أبا سفيان وكان قد عرفهُ في بعض أسفاره مع سيده عبد الله إلى الحجاز فتذكر ما كان من حديثهُ في بيت المقدس وكان قد رآه يوم اعتناقهُ الإسلام عند فتح مكة فاستغرب وقوفهُ هناك والحرب منتشبة فدنا منهُ وأبو سفيان لا يراه فسمعهُ يخاطب رفقاءه فيقول: «يا مشيخة قريش ومهاجري الفتح (وهم الذين هاجروا يوم فتح مكة وأسلموا) لا يهمنا من هذه الحرب إلاَّ الانحياز إلى الغالب فإذا غلبت الروم كنا معهم وإذا انتصر المسلمون فإننا معهم». فعجب سلمان لكلامهُ وعلم أنهُ إنما أسلم خوفا على حياتهُ لا رغبة في الإسلام ولكنهُ ظل في ريب من هذا الأمر فأصاخ بسمعهُ لما يقولهُ بعد ذلك فرآه إذا تقهقر العرب وتقدم الروم قال: «إيه يا بني الأصفر». (يعنى الروم) وإذا مالت الروم وتقدمت العرب قال: «ويح بني الأصفر» ولم يكد أبو سفيان يتم كلامهُ حتى صاح بأعلى صوتهُ آه فنظروا وإذا بنبلة أصابت إحدى عينيهِ ففقأتها فقال سلمان في نفسهُ (لقد نال هذا الرجل جزاءه) وخاف سلمان البقاء هناك لئلا يصاب بنبلة فسار إلى ناحية أخرى والحرب قد حمي وطيسها فرأى بريدا قادمًا من جهة البلقاء فعرف صاحبهِ وكان قد عرفهُ في الحجاز فعلم أنهُ بريد قادم من المدينة بخبر جديد فتفرس سلمان في صاحب البريد فرآه مسرعا وعلى وجههُ أمارات البغتة فناداه فوقف فقال سلمان: «هل تريد الأمير خالد؟» قال: «نعم أين هو؟» قال: «في المعمعة ولكني أوصلك إلى فسطاطهُ» فسارا معًا وعينا صاحب البريد على الجند وحركاتهُ فلما رأى جند العرب ظافرًا لم يتمالك أن قال: «ألم يكن مقدورًا لأبي بكر أن يسمع بخبر هذا النصر قبل موتهُ» فقال سلمان: «وهل مات أبو بكر؟»
قال: «نعم لقد مات وأنا إنما جئت بخبره».
فقال سلمان: «ومن تولى بعده؟»
قال: «تولى الإمام عمر بن الخطاب وهو رجل ذو بطش وقوة وحزم».
فبغت سلمان لذلك الخبر وقال: «ألاَّ تظن وفاته تؤثر شيئًا في مجرى الأحوال».
قال: «كلا ولكن عمر يفضل أبا عبيدة على خالد وقد أنفذني بعزل خالد عن قيادة هذا الجند وتولية أبي عبيدة على أنني لا أرى أن أبلغهم الخبر قبل انقضاء الواقعة لئلا يفشلوا أو يختلفوا فيما بينهم». فقال سلمان: «حسنًا تفعل فقل لي ما الذي حمل الخليفة عمر على نقل القيادة إلى أبي عبيدة ألعلهُ أشجع من خالد».
قال: «كلا ولكن أبا عبيدة رجل كريم الأخلاق لين سهل حليم رءوف وهو أقدم في الإسلام من خالد والقيادة تحتاج إلى حكمة وتأن أكثر من حاجتها إلى الشجاعة».
قال سلمان: «نعم ولكنني علمت أن النبيَّ سمى خالد «سيف الله» أفليس هو أحق بالقيادة». قال: ولكنهُ ﷺ «سمى أبا عبيدة «أمين الأمة» وكان يحب صحبتهُ والالتصاق بهِ والحق يقال أن كليهما فرد ولكن للخليفة رأيًا في ذلك فأنهُ ساخط على خالد بسبب حكاية وقعت منهُ في أيام أبي بكر».
فقال سلمان: «هلم بنا نجلس في مأمن ريثما تنقضي الحرب لأنهم إذا رأوك لا ينفكون عن سؤالك حتى تخبرهم بموت أبي بكر وعزل خالد».
فاستحسن صاحب البريد الرأي وعرج مع سلمان إلى شجرة تواريا وراء جذعها فأخذ سلمان يستفهمهُ عن كيفية موت أبي بكر وولاية عمر.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما عهد أبو بكر بن أبى قحافة إلى المسلمين أما بعد …
… أما بعد فقد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا.
ثم أفاق أبو بكر من غشيتهُ فقال لعثمان: «اقرأ». فقرأ ما كتبهِ فكبر أبو بكر وقال: «أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي هذه». قال: «نعم» قال: «جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهلهُ» ثم قرأوا هذا العهد على الناس ولما قبض أبو بكر بايعوا عمر وهو الآن خليفة رسول الله وقد سموه أمير المؤمنين تخلصا من تكرار لفظ خليفة لمن يتولى الخلافة بعده».
وفيما هما في الحديث وأعينهما شائعة نحو المعركة رأيا جند الروم قد تقهقروا وعبر العرب خندقهم واستولوا على أسلابهِم وفر الروم ومن نصرهم من العرب المتنصرة وغيرهم وتم النصر للمسلمين ولم يمض إلاَّ القليل حتى عاد المسلمون بالغنائم من الأثاث والحلي والأسلحة وغيرها. فمشى سلمان وصاحبهِ نحو فسطاط خالد فرأياه عائدًا وحولهُ الأمراء على غير نظام لما دار بينهم من أحاديث النصر.
فحالما وقع نظر خالد على صاحب البريد عرفهُ فبعث إليه فتبعهُ إلى الفسطاط فأذن بدخولهُ فدخل وأنبأ خالدًا بموت أبي بكر وخلافة عمر وعزلهُ وولاية أبي عبيدة فأوصاه خالد بكتمان الخبر عن كل إنسان.
أما سلمان فإنهُ عاد إلى مشاغلهُ بأمر هند وشق عليهِ انهزام جبلة وخاف أن يكون قد قتل ثم علم ببقائهِ حيا فمال بكليتهُ للذهاب إلى حماد يطلعهُ على ما علمهُ عن هند ولكنهُ أراد استطلاع نية المسلمين ووجهة مسيرهم قبل ذهابهِ فقضى أيامًا يبحث عن ذلك فعلم أنهم عازمون على دمشق فخاف على هند لعلمهُ أنها فيها وود لو يعلم أين والدها وما هو عازم عليهِ بعد شخوص العرب إلى الشام فعوَّل على استطلاع ذلك من جبلة وقد علم بانهزامهُ فخرج من معسكر العرب يبحث عن جهة مسيرة فقيل لهُ أنهُ سار في جملة منهزمي الروم إلى حمص والإمبراطور هرقل فيها فقصد حمص.