خبر مفاجئ
تركنا حمادًا وعبد الله في بصرى ينتظران عود سلمان بخبر اليرموك ومقام هند. وحماد كثير القلق لا يرتاح لهُ بال على هند وقد حدثتهُ نفسهُ بشر أصابها أو بفشل يتهدده على أثر ما قاساه في سبيل الحصول عليها من الأسفار والأخطار وتهيأ لهُ أنها خرجت من يده وذهبت مساعيه كلها أدراج الرياح فعظم عليهِ الأمر فآنس في نفسهُ ميلا إلى المسير إليها واستطلاع ما في نفسها من قبلهُ ولكنهُ لم يكن يعرف مقرها فلبث ينتظر رجوع سلمان بالخبر اليقين.
وكان يتلاهى بالخروج للصيد ونحوه وهو لا يهدأ لهُ بال وأدرك عبد الله فيهِ ذلك وهو يتجاهل وينتظر أن ينفر حماد من هند ويلتمس العدول عنها من تلقاء نفسهُ وقد فاته قول القائل:
فكان يصاحبهِ إلى الصيد ويكثر من محادثتهُ في شؤون مختلفة إلاَّ مسأَلة هند فأنهُ لم يكن يفتحها قط. ولم تمض أيام حتى سمعا بانهزام الروم في اليرموك فصارا يتوقعان سرعة رجوع سلمان.
ففي ذات يوم نهض حماد صباحا وأخذ يتأهب للخروج إلى الصيد وفيما هو يفتش بين أثوابهِ وسلاحهُ عثر على الدرع التي ألبستهُ إياها هند يوم السباق ولم يكد ينظر إليها حتى اختلج قلبهِ لما مر في ذاكرته من حوادث الحب فعظم عليهِ احتباسهُ في بصرى لا يعلم مقر حبيبته مع ما ظهر لهُ من جفاء والدها وفتور والده (عبد الله) وما قام من الحروب مما زاد الأمر أشكالًا. فوقف برهة ينظر إلى الدرع ويقلبها بين يديه وهو غارق في بحار الهواجس حتى غلب عليهِ اليأس وكادت الدموع تتناثر من عينيه وكان عبد الله غافلًا أو متغافلًا عن ذلك وقد خرج لقضاء حاجة لهُ وترك حمادًا في الغرفة وحده.
فلم يكد حماد يخلو بنفسهُ حتى سمع صهيل جواد غير جواده وغير جواد عبد الله فانتبهِ بغتة وأطل من النافذة فإذا براكب ترجل ودنا من الباب وهو في ريب من أمر أهلهُ فأمعن حماد نظره فيهِ فلم يعرفهُ فلاقاه الرجل بالباب وقال: «هل هنا منزل الأمير عبد الله العراقى؟»
قال حماد: «نعم هو هنا».
قال: «وأين ابنهُ الأمير حماد؟»
قال: «هو أنا ماذا تريد؟»
قال: «إن بعض الناس في حاجة إليك ينتظرونك في دير بحيراء».
فلما سمع حماد ذكر الدير خفق قلبهِ واستبشر بقدوم القادم فقال للرسول: «إني سائر إلى هناك على عجل فودعهُ وركب وعاد حالًا».
فأسرع حماد في لباسهِ قبل أن يأتي عبد الله ولكنهُ لم يكد يخرج حتى لقيه عبد الله فاستغرب ركوبهِ قبلهُ فاعتذر بأنهُ يود الخروج لزيارة الدير وحده فأذعن لهُ وهو في ريب من الأمر.
فهمز حماد جواده ولم يقف إلاَّ أمام باب الدير فرأى هناك فرسًا عرف أنهُ من أفراس أهل صرح الغدير فاستبشر ودخل الدير يطاول بعنقهُ ويحدق بعينيهِ فرأى امرأة عرفها لأول وهلة أنها من خادمات هند وهي التي حملت إليه الرسالة الأولى قبل ذهابهِ إلى بصرى.
فحيتهُ وهمت بتقبيل يده فرد السلام ولسان حالهُ يقول قولي ما خبرك. فمشت أمامهُ إلى غرفة هناك فتبعها فلما وصلا الغرفة مدت يدها إلى أثوابها واستخرجت منديلا دفعتهُ إليه وهي تقول إن سيدتى هندًا تسلم عليك وقد أرسلت إليك هذا المنديل. فقلب المنديل بين يديهِ فإذا فيهِ كتابة كتبت بالدم بالأحرف النبطية وهي قولها: «لم نكد نفرح بنجاتنا من ذلك الثعلب حتى عاد إلى مصاحبة والدي وعاد إلى مطلبهِ الأول وأنت تعلم أن الموت أهون مراسًا عليَّ من ذلك فأدركني قبل فوات الفرصة فإني مقيمة في دمشق ولعل حامل كتابي أن يفيدك إيضاحًا». فلم يفرغ من قراءة هذه الكلمات حتى ارتعدت فرائصهُ والتفت إلى المرأة يستطلعها الخبر فقالت: «إن مولاتي هندًا مقيمة في دمشق في منزل قرب كنيسة مريم وقد بعثتني بهِذا الكتاب وأوصتني بأن أسلمه إليك يدًا بيد في هذا الدير فبعثت الرجل حتى أتى بك من بصرى وهذا هو الكتاب».
قال: «نعم قد قرأتهُ ولكنني لم أفهم حقيقة المراد فهل ثعلبة الآن في دمشق».
قالت: «كلا بل هو مع سيدي جبلة في جند الروم بحمص».
قال: «وما الذي جمعهُ بالأمير جبلة وقد كنت أعلم أنهما متخاصمان».
قالت: «نعم إنهما كانا متخاصمين ولكنهما تصافيا بعد انكسار جنودهما في واقعة اليرموك».
فقال حماد: «وكذلك يتصافى العدوان إذا أصيبا بسوء معًا. وماذا جرى بعد ذلك».
قالت: «وكنا مقيمين في دمشق مع سيدتي هند ووالدتها وسائر الحاشية كما ذكرت لك فلم ندر إلاَّ وكتاب وارد من سيدي الأمير جبلة إلى سيدتي الأميرة سعدى ينبئها بقرب قدومهُ مع ثعلبة إلى الشام لعقد اقترانهِ على هند في أثناء مهادنة العرب فلم تتمالك سيدتي عند تلاوة الكتاب عن أن تخبر هندًا بهِ فأسرت سيدتي هند إليَّ واقعة الحال وبعثتني في هذه المهمة وأوصتني أن ألقي إليك الأمر كما وقع لتتدبر في إنقاذها فأنها تفضل الموت على الاقتران بهِ».
فلما سمع حماد ذلك الحديث ثارت الحمية في رأسه واتقدت نيران الغيرة في قلبهِ وود لو أن لهُ أجنحة ليطير إلى دمشق حالًا ولكنهُ لبث برهة يفكر ثم قال للمرأة: «وأين ثعلبة الآن».
قالت: «هو مع سيدي جبلة بجوار حمص ولكنني أظنهُ أقلع قاصدًا دمشق».
فازداد قلقًا وأخذ يخطر في الغرفة ذهابًا وإيابًا ثم قال لها: «ارجعي إلى سيدتك وأخبريها إني قادم إليها على عجل وربما وصلت دمشق قبلك».
قالت: «وماذا يؤكد لها إني لقيتك وقصصت عليك الخبر إلاَّ تذكر لها علامة تبين لها ذلك».
ففكر قليلًا ثم قال: «قولي لها إن صاحب البرد والخاتم قادم إليك وهذا يكفي».
فودعته وركبت وركب الخادم ورجعا.
أما هو فوقف يفكر في حالهُ مع عبد الله وتردد بين أن يعود إلى بصرى فيخبره بجلية الخبر أو أن يسير توًا إلى دمشق فلبث برهة في حيرة حتى خاف أن تفوتهُ الفرصة فذهب إلى غرفة الراهب الشيخ فإذا هو متكئ فحياه فرحب بهِ وسألهُ عن أمره فقال: «لقد جئتك بوصية أرجو أن تبلغها إلى الأمير عبد الله».
قال: «وما ذلك».
قال: «إذا لقيتهُ قل لهُ إني سرت إلى دمشق لأمر هام وسأعود إليه فإذا استبطأني فليدركني هناك».
قال: «سأفعل ذلك إن شاء الله».
وودعه حماد وخرج على جواده قاصدًا دمشق.